[الإحصار وما يتعلق به من مسائل]
قال المصنف رحمه الله: [ومن صده عدو عن البيت أهدى ثم حلَّ].
قوله: (ومن صده عدو عن البيت) هذا يسمى بالإحصار، وصورته: أن يريد شخص الحج ثم يحصر ويمنع من الوصول إلى البيت بعدو، كما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية؛ فإنه عليه الصلاة والسلام حصره المشركون عن عمرته، ومنعوه من الوصول إلى البيت، واشترطوا عليه أن يرجع من هذا العام وأن يأتي من العام القادم؛ فتحلل عليه الصلاة والسلام، ثم نحر هديه ورجع إلى المدينة.
وللعلماء في تحديد صور الحصر أقوال: فمنهم من يقول: الحصر يتقيد بالعدو ذي القوة والغلبة والقهر، بحيث لا يستطيع الشخص الوصول إلى البيت؛ كما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية.
ومنهم من يقول: يلتحق بحصر العدو كل ما في معناه، ثم قاسوا على ذلك مسائل: منها: أن يحصر بمرض؛ كأن يكسر، أو يصيبه عرج، أو يكون مريضاً ويفوته الوقوف بعرفة بسبب هذا المرض الذي لم يستطع أن يدرك معه هذا الركن، فيأخذ حكم المحصر.
فلو أن إنساناً نوى الحج ثم خرج، فلما صار في الطريق أصابته الحمى، أو كسرت يده أو رجله، واحتاج للعلاج، وقيل له: لا يمكن لك أن تبرح هذا المكان قبل يومين أو ثلاثة، وليس بينه وبين عرفة إلا يوم واحد، ويلزمه الطبيب العدل أو أهل الخبرة من الأطباء بالبقاء، وأنه لا يمكنه العلاج إلا في هذا الموضع؛ فحينئذٍ يكون محصراً عند هؤلاء.
ويدخل في حكم المحصر من أصابه المرض المعدي -كالكوليرا ونحوها- بحيث لو مشى بين الحجاج أهلك الناس وأضر بهم؛ فإن من حق ولي الأمر أن يحجر عليه، وقد ذكر العلماء رحمهم الله هذه المسألة تحت القاعدة المشهورة: إذا تعارضت مفسدتان روعي ارتكاب أخفهما دفعاً لأعظمهما.
واستدلوا لذلك بالأدلة الصحيحة الكثيرة: منها: كسر السفينة من الخضر عليه الصلاة والسلام دفعاً لضرر أعظم.
قالوا: فيجوز الحجر على هذا الحاج ومنعه من إتمام نسكه.
وقد ذكر العلماء -من أئمة الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة- جواز الحجر على من عنده مرض معدٍ، ومنعه من الخروج للقاء الناس، واعتبروها من مسائل الحجر على المريض، وذلك أن العدوى بقول الأطباء تقبل فيها شهادتهم، وينظر إلى الغالب، فمثل هذا يعتبر في حكم الحصر.
ثم قالوا: يقاس على المحصور بالعدو من كان عنده عذر يحول بينه وبين بلوغ البيت؛ كذهاب النفقة، أو سرقة ماله وهو في الطريق، ولم يستطع أن يكتري ولا أن يستأجر أو أن يمشي على قدميه حتى يصل إلى عرفات ليدرك الحج، فهو في حكم المحصر، ويتحلل.
ومثله أيضاً العاجز حسياً، وهو مثل العذر الشرعي، فيكون أيضاً في حكم الإحصار، ومثلوا لذلك بالمرأة التي مات محرمها في طريقها للحج، أو مرض أو انكسر ولا يستطيع أن يتم معها مناسك الحج، وهي على مسافة قصر بينها وبين مكة، فإذا بقيت مع محرمها فإن الحج يفوتها، فقالوا: إن هذا عذر شرعي؛ لأن المرأة لا يجوز لها أن تسافر بدون محرم، فينزّل العجز الشرعي منزلة العجز الحسي.
ومن العجز الشرعي أيضاً: إذا توفي زوج المرأة؛ فإنه يلزمها الإحداد، وللعلماء في المرأة التي تبلغها وفاة زوجها أثناء الحج أو أثناء العمرة وجهان: الأول: منهم من يرى أنها إذا أحرمت بالحج أو بالعمرة ودخلت في النسك، ثم جاءها الخبر، فإنها تتم الحج والعمرة ولا ترجع، وقد قضى بهذا بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تفتي به، وهو الصحيح؛ فإن المرأة إذا أحرمت بالحج أو العمرة وبلغتها وفاة زوجها؛ لزمها إتمام الحج والعمرة، ولا يعتبر هذا بمثابة الإحصار، وإنما تبقى في نسكها؛ لتعارض الواجبين، الأول: ما يمكن تداركه، والثاني: ما لا يمكن تداركه، فيقدم ما لا يمكن تداركه على الذي يمكن تداركه عند ازدحام الفرضين والواجبين، فنقول لها: امضي وأتمي النسك، ثم ارجعي واعتدي عن بعلك عدة الوفاة.
وقد اختلف في المرض، والقول باعتباره عذراً في الحج من القوة بمكان، ويقول به جمع من أهل العلم، كما هو موجود في مذهب الحنفية والحنابلة وغيرهم رحمة الله على الجميع.
وقد جعل الله تعالى الإحصار رحمة للعباد، فإن الإنسان إذا حيل بينه وبين البيت وفاته الحج، فإنه لا يمكنه أن يتداركه، فلو أن الشرع ألزمك إذا أحصرت عن البيت أن تبقى بإحرامك حتى تحج من السنة القادمة، فيبقى الإنسان محرماً سنة كاملة محرمة عليه محظورات الإحرام، فلا شك أن هذا من العسر بمكان، فمن رحمة الله تعالى أن شرع هذا الأمر وهو الإحصار، فهو من دلائل يسر الشريعة، وصدق الله عز وجل إذ يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:١٠٧].
إذا ثبت أن الحصر بالعدو يعتبر موجباً للرخصة، فهنا مسألة، وهي: أن من شرط هذا الحصر: ألَّا يتمكن الإنسان من طريق بديل، فلو كان لمكة أكثر من طريق، وحصر من طريق، وأمكنه أن يذهب من طريق ثانٍ ففيه تفصيل: قال بعض العلماء: إذا كان الطريق الثاني فيه مشقة، أو أنه يحتاج إلى نفقة أكثر من النفقة التي معه، أو فيه ضرر عليه؛ فإنه يكون في حكم المحصر.
وقال بعض العلماء: إذا وجد طريقاً بديلاً يلزمه أن يسلكه ولو كانت نفقته لا تكفي، ولو كانت فيه مشقة عليه؛ لأنه من باب ارتكاب أخف الضررين، فإن فوات هذه العبادة أعظم من المشقة الطارئة على هذا الوجه، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الحج بكونه جهاداً، فلا يرون وجود المشقة على هذا الوجه موجبة للرخصة.
وقولهم ألزم للأصل كما لا يخفى.