للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[نصيحة لطالب علم كثير النسيان]

السؤال

لا أعرف كيف أقرأ كتب أهل العلم؛ إذ أنسى أول الكتاب إذا وصلت إلى آخره، ولا أعرف كيفية الضبط، فما المنهجية في ذلك؟

الجواب

القواعد والمنهجية مسائل كبيرة، فطلب النصائح والتوجيهات ممكن، لكن المنهجية أمر صعب جداً.

وعلى كل حال من أخلص لله فتح الله عز وجل عليه من فضله.

أولاً: لا يقرأ الإنسان في كتاب يختص بعلم حتى يحصل قواعده بالتلقي المباشر، وأنبه أن العلم لا يؤخذ عن طريق الكتب، ولا تؤخذ السنة إلا من أفواه الرجال، وأما كون كل شخص يأخذ كتاباً ويأخذ علماً، ويستقل بنفسه في دراسته وفهمه فمن السهل أن ينسى، وأن يفهم فهماً خاطئاً فيضل.

ومعلوم أنه كلما تأخر جيل عن الذي بعده نقص اتباعهم لهديه عليه الصلاة والسلام؛ لأن الجيل الأول تلقى الوحي مباشرة فشاهد مشاهد التنزيل، وجلس مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ منه مباشرة، وهذا أكثر بركة، وأكثر فهماً وأكثر ضبطاً, وأكثر تحقيقاً، وكلما تأخرت الأمم كلما ضعف العلم، ومن هنا فُرق بين القرن الذي يليه عليه الصلاة والسلام والقرن الذي بعده حتى تقوم الساعة، فالتلقي لابد أن يكون من أفواه العلماء ومن أفواه الرجال، كما كان حال السلف رحمهم الله والأئمة.

ثانياً: الكتاب الذي تريد أن تقرأه لابد أن تراعي فيه أموراً.

أولاً: ينبغي على طالب العلم ألا يقرأ كتاباً حتى يقرأ مقدمته، وتعرف ما الذي في المقدمة.

ثانياً: لا تقرأ إلا بين يدي عالم، فتضن وتشح بنفسك وبوقتك عن أن تهدره عند من لا يقدره قدره من أنصاف المتعلمين والمجهولين، فلا تأخذ العلم إلا ممن يعرف، وإياك والجلوس عند من لا يعرف العلماء، ومن لا يعرفه العلماء، ولذلك تجد هذا الزخم الموجود في المكتبة الإسلامية إلى درجة أنه أصبح يضايق كتب السلف وأئمة العلم حتى في المسائل الواضحة، وكأن كتب العلماء والأئمة المتقدمين لا تُشفي عليلاً ولا تروى عليلاً، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له، فلا تقرأ إلا كتب من يوثق بعلمه، وكثير من الآفات تأتي بسبب هذا، ولربما تجد الشخص يؤلف في مسألة كبيرة وهو يجهل مقدمات العلوم، وهذا هو الذي -نسأل الله السلامة والعافية- ابتليت به الأمة.

خاصة في هذه الأزمنة المتأخرة، فتصدر للتدريس والكتابة من ليس بأهل لذلك إلا من رحم الله عز وجل.

فلا يُقرأ لكل أحد، ولا تؤخذ كتباً لأناس مجهولين لا يعرف من هم، خاصة في أمور العقيدة، وفي المسائل المهمة التي تتصل بعقيدة الإنسان، أو بعبادته فيما بينه وبين الله، وهذا لا يتساهل فيه، ونحن نشدد في هذا، والله يشهد أننا لا نريد إلا النصيحة لله ولكتابه ولدينه وشرعه، ولا نقصد بذلك شخصاً، ولا نقصد طائفة ولا جماعة، لا نقصد إلا من تصدّر لشيء ليس له بأهل.

وهناك أمر آخر، وهو أن أي مسألة تُريد أن تقرأ فيها فلا يخلو الأمر إما أن تكون قديمة بحث عنها فيها السلف ودواوين العلم وكتبوا فيها، وإما أن تكون مسألة نازلة جديدة.

فإذا كانت المسألة قديمة بحثها أئمة السلف ودواوين العلم فالله الله في سلف الأمة، فأنت في غناء عمن بعدهم؛ لأن الذين من بعدهم إما أن يكرروا لما قالوه، وإما أن يأتوا بشيء من عندهم، فما علمت فإنه يكفيك، واقتد بالأولين، وهذه نصيحتي لكل طالب علم.

فخذ أي كتاب من كتب العلماء المتقدمين، وخذ التفسير -على سبيل المثال- واقرأ في تفسير آيات الصبر، واقرأها بقلب خاشع وبنفس حاضرة، وتدبر الكلام الذي يقال لك فستجده كلاماً ليس فيه أكثر من دلالة الآيات والنصوص، وصحيح أنه ليس فيه جرأة على القول على الله عز وجل، وليس فيه كلام معسول ولا كلامٌ منمق، لكنه كلامٌ عليه نور العلم لا يعرفه إلا من عرف العلم، وتجد العالم والله أصدق لساناً وأوضح بياناً، وأقوى حجةً وبرهاناً, وما كان يعجزهم أن يأتوا بالكلمات المعسولة والخطب الطنانة والعبارات المنمقة، لكنه الورع الذي سببه التقوى.

فما الذي جعل بعض المتأخرين يأخذ الرسائل وهو بإمكانه أن يرجع إلى دواوين العلم وإلى العلماء الأولين، بل الأولى أن يُعَودَ شبابنا وصغارنا على الالتصاق بسلف الأمة، وأن يقرؤوا ويداوموا النظر في كتب المتقدمين حتى ينتهلوا مما انتهل منه العلماء الأولون ليجدوا بركة ذلك العلم الذي أثرت عليه دلائل الإخلاص وإرادة وجه الله عز وجل.

لكن حينما يقرأ للمتأخر ويلتصق بالمتأخر تجده بعد ذلك -إذا كان خطيباً، أو كان واعظاً- لا يستطيع أن يخطب خطبة في موضوع، أو يتكلم أو يحاضر في محاضرة، إلا إذا كان فيها رسالة معاصرة، قالوا: لأن كلام الأولين معقد، وكلام المتأخرين سهل والحقيقة أن قول الأولين ولكنه ألفاظ موزونة رصينة، وكتبت هذه الكتب والعلماء متواجدون متظافرون، فكان كل واحد منهم يخاف النقد، وكانت كل كلمة وجملة محسوبة، وكنا نقرأ في بعض الكتب فنحاول في بعض الأحيان أن نأتي ببديل عنها من الكلام المعسول، ليستقيم الكلام فلا نستطيع.

وقال لي الوالد رحمة الله عليه مرة أنصحك.

أو: أناشدك الله ألا تجد علماً عند السلف وعند الأئمة المتقدمين وعند المتأخرين شيء منه إلا رجعت إلى علم المتقدمين.

وأدركت -والله- فضل نصيحته، وأسأل الله بعزته وجلاله أن يجزيه عني وعن الإسلام والمسلمين كل خير، والله وجدت بركتها وخيرها حتى في الفتاوى، ما أجمل أن ترجع فيها إلى كتب السلف والمتقدمين، ولا تخف من الناس، وإنما عليك أن تلقي العبارات، فقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء سبحانه وتعالى، ولا تنتظر من الناس مدحاً أو جزاءً أو شكوراً، ولا تبحث عن رسالة لعلمك أن عباراتها منمقة، أو كتاب عباراته سهلة وأنت تجد علماً معروفاً عن عالم معروف يخاف الله ويتقيه ويزكيه من أئمة العلم ودواوين العلم وتترك هذا من أجل ما تجده عند الناس من العجب بعبارتك أو بكلماتك، ولكنك تجد -إذا رجعت إلى كتب الأولين- من القبول من الله والمحبة والتوفيق ما لم يخطر لك على بال، وهذا الشيء نشهد لله به، فعلم المتقدمين أبرك وأكثر خيراً، وليس معنى ذلك أن المتأخرين ليس عندهم شيء، ولكنها الحقوق.

ليس هناك عاقل حكيم يُسأل عن عين زاكية نظيفة نقية لا تشوبها الشوائب، تجري على الأرض يعرف منبعها ويعرف فرعها فيقول: خذ من الفرع واترك الأصل.

فقد اجتمعت العقول على أنها تدل على الأصول، ومن ذهب إلى الأصل وأخذ منه كان أصفى علماً وأنقى وأبعد عن الشوائب، فنحن نوصي بهذا، ونوصي بكتب السلف ما أمكن.

أما طريقة القراءة فباختصار: أولاً: لا تقرأ إلا بعد أن تعرف منهج العالم -كما ذكرنا- الذي هو منهج الباحث، وكان العلماء رحمهم الله يعتنون ببيان منهجهم في كتبهم، فإذا قرأت المقدمة وعرفت منهج العالم فاسأل عما أشكل عليك، ولا تبدأ قراءة الكتاب إلا بعد أن تعرف ما مقصوده، خاصة إذا كان له مصطلحات خاصة، أو يَعتبر مفاهيمَ معينةً.

وبعد أن تقرأ المقدمة وتفهم منهج العالم وطريقته في تناول المسائل والعبارات تقسِّم الكتاب بتقسيمه، فهناك ما يسمى الأصل، وهناك ما يُبنى على الأصل من الفروع، فإذا جئت إلى مسألة تتعلق بحكم شرعي فهناك ما يُسمى بالأركان والشروط تتحقق بها ماهية الشيء، وبعد الأركان والشروط تأتي الأحكام المترتبة على وجودها، وهي ما يسميها العلماء بالأثر، ثم تأتي مباحث يسميها العلماء بالطوارئ والنوازل.

فإذا جئت تقرأ في مباحث الأحكام والأركان والشروط تعرف المقدمات.

فلا تقرأ إلا وقد عرفت المقدمة، وعرفت مصطلحات من تقرأ كتابه، وكونك تقرأ الكتاب فينسيك آخرُه أولَه فما أدري، هل العيب في القارئ، أو -والعياذ بالله- مُحِقَت بركة الكتاب المقروء، فليس فيه بركة، وإما أن يجتمع الأمران، فإما أن يكون القارئ -والعياذ بالله- عنده ذنوب أطفأت نور العلم، وأظلمت القلب فلم يفقه ولم يفهم، وإما أن يكون العيب في الكتاب -نسأل الله السلامة والعافية-، ولذلك تجد بعض الكتب لما تقرأها تبقى، وبعض الكتب تقرأها، ثم إذا انتهى الإنسان من حاجته في اختبار أو غيره ذهب علمها -نسأل الله السلامة والعافية-، فهذا راجع إلى نفس تأليف الكتب ووضعها، وكان السلف رحمهم الله يخافون من التأليف، ولا يؤلفون إلا إذا سئلوا.

وإما أن يكون مجموع الأمرين: عيب في القارئ، وعيب في واضع الكتاب.

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرحمنا برحمته، وأن يتولانا بما تولى به عباده الصالحين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>