قال رحمه الله تعالى:[الثالث: أن يكونوا بقرية مستوطنين، وتصح فيما قارب البنيان من الصحراء].
المراد بهذا إخراج أهل العمود وأهل الخيام، كأهل البادية الذين يرتحلون طلباً للمرعى، فإنهم لا يستقرون ولا يحكم بكونهم مستوطنين، ولكن لو أن الناس كانوا بجوار المدن وفي حكم ما قارب المدينة فإنه يحكم بلزوم الجمعة عليهم إذا كانوا يسمعون النداء، وإلا فالأصل أنها لا تجب على أهل العمود والخيام كأهل البادية.
قوله:[وتصح فيما قارب البنيان من الصحراء].
أي: تصح الجمعة إذا وقعت في مكان قريب من البنيان، وهذا مبني على القاعدة المعروفة: ما قارب الشيء أخذ حكمه.
ووجه ذلك أن ما قارب البنيان محكوم بكونه في حكم المدينة، وعلى هذا فلو كانوا قريبين من البينان بينهم وبينه ميل أو أقلّ صح أن يجمِّعوا في هذا الموضع.
أما الدليل على هذه المسألة فحديث الدارقطني الذي سبقت الإشارة إليه، وهو أن نقيع الخضمات -وهو أحد الأبقعة والأنقعة التي كانت في المدينة كبقيع الغرقد- كان قريباً من المدينة ولم يكن متصلاً بالبنيان اتصالاً مباشراً، فدل على أنه إذا وقعت الجمعة في مكان قريب من البنيان، ورأى الإمام أن الرفق بالناس أن يصلوا في هذا الموضع، وأنه أرفق بمن كان داخل المدينة وأرفق بمن كان يأتي من البادية، فجعل الجمعة في مكان قريب من البنيان، فحينئذ نقول: الجمعة صحيحة.
فاشتراطهم الاستيطان لا يفهم منه أن الجمعة لا تصح إلا داخل المدن، بل إنها لو وقعت قريبة من المدن فإنها تأخذ حكم ما لو وقعت داخل المدن، وهذا -كما قلنا- دلت عليه السنة في حديث أسعد بن زرارة رضي الله عنه، فإن نقيع الخضمان قريب من المدينة، وليس بداخلها.
وتوضيح ذلك أن بنيان المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يجاوز المسجد الحالي الموجود الآن، وقد يكون أقل منه بقليل، وكان إلى جنوب غرب مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يقع مصلى العيد، وهو المعروف الآن بالغمامة، وبعد الغمامة بمسافة أبعد عن المسجد يقع بقيع أو نقيع الخضمات في حرة بني بياضة، وهو إلى الجنوب أكثر، فهذا الموضع يبعد أكثر من ميل وقليل، وهو يبعد عن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فكونهم جمَّعوا في هذا الموضع البعيد عن البنيان بهذه المسافة التي هي ميل وزيادة يدل على أن ما قارب المدينة يأخذ حكمها، وأنه لا حرج في إقامة الجمع قريبة من البنيان.