للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[خلاف العلماء في قتل المسلم بالذمي]

قال رحمه الله: [بأن يساويه في الدين].

أي: أن يساوي المقتول القاتل في الدين، فلا يقتل المسلم بكافر؛ لأن الكافر لا يكافئ المسلم، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث السنن: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم حرب على من سواهم، ولا يقتل مسلم بكافر، ولا يُقتل ذو عهد في عهده).

فقوله عليه الصلاة والسلام: (المسلمون تتكافأ دماؤهم)، هذا حصر يدل على أن غير المسلمين لا يكافئ المسلمين، فلا تتكافأ دماء المسلمين مع غير المسلمين.

ومن هنا قال جمهور العلماء رحمهم الله: إن المسلم لا يقتل بغير المسلم إذا كان حربياً إجماعاً، وإذا كان ذمياً على خلاف، فالجمهور يرون أن المسلم لا يقتل بالذمي، فلو أن يهودياً أو نصرانياً دخل إلى بلاد المسلمين ذمياً، وبينه وبين المسلمين عهد الذمة، فجاء مسلم فقتله، فالجمهور يرون أنه لا يقتل به.

وذهب الإمام أبو حنيفة والنخعي وطائفة من السلف إلى أنه يقتل المسلم إذا قتل هذا الذمي، واحتجوا بعموم الأدلة في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:١٧٩]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:١٧٨].

واحتجوا بحديث مشهور وهو حديث ابن البيلمان وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلماً بمعاهد وقال: أنا أحق من وفّى بذمته)، وهذا الحديث ضعيف، حتى إن أئمة الحديث رحمهم الله ردوه سنداً، وقال أبو عبيد رحمه الله مقالة مشهورة: إنه من رواية عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن البيلمان، وبمثله لا تستباح دماء المسلمين.

يعني أنه راوٍ ضعيف، ومثله ليس بحجة حتى يحكم بما تضمنه حديثه فنستبيح دماء المسلمين بدماء الكفار، وهذا لا إشكال في بطلانه ورده.

أما بالنسبة لأدلة الجمهور فقد استدلوا بالآتي: أولاً: استدلوا بما ثبت في حديث علي رضي الله عنه وأرضاه، أن أبا جحيفة وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه وأرضاه سأل علياً رضي الله عنه، وقال: (هل خصكم صلى الله عليه وسلم بشيء؟ -لأن الغلاة في علي رضي الله عنه كانوا يقولون: إن آل البيت خصوا بأشياء- فقال علي رضي الله عنه: لا والذي برأ النسمة وخلق الحبة، ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، إلا فهماً يعطيه الله لرجل منا في كتابه وما في هذه الصحيفة، ثم نشرها، وفيها: المدينة حرم من عير إلى ثور، ومن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً يوم القيامة، وفيها: لا يقتل مسلم بكافر).

فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يقتل مسلم بكافر) هذا نص عام، سواء كان المسلم ذكراً أو أنثى، وسواء كان الكافر ذمياً أو معاهداً أو مستأمناً أو حربياً أو مرتداً، فقال: بكافر، وكافر نكرة، والنكرة تفيد العموم، وهذا أصل عند العلماء، فلما قال: بكافر، ولم يستثنِ كافراً من هذا العموم؛ دل على أن المسلم إذا قتل الكافر لا يقتل به ألبتة.

إذاً: أدلة الذين قالوا: إنه لا يقتل، صحيحة وصريحة واضحة على أن المسلم لا يقتل بالكافر.

أما ما استدل به الإمام أبو حنيفة رحمه الله من عموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:١٧٨] فنجيب عنه من وجهين: الوجه الأول: لا نسلّم أن هذا يشمل الكافر؛ لأن الله صدر الآية بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:١٧٨]، والخطاب بين المؤمنين في قتل المؤمنين بعضهم لبعض، وبقي ما عداهم على الأصول.

ثانياً: أن قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:١٧٨] يدل على وجوب المساواة، وإذا كانت الآية تدل على وجوب المساواة في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:١٧٨] فمعنى ذلك أنه لابد أن يساويه ديانة، والمسلم لا يساوي الكافر ديانة.

وهناك جواب آخر يختاره جمع من العلماء رحمهم الله والمحققين وهو أن يقال: إن آية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:١٧٨] عامة، وحديث: (لا يقتل مسلم بكافر) خاص، والقاعدة: أنه لا تعارض بين عام وخاص.

هذا بالنسبة لقول الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، بل إن بعض أصحابه كالقاضي أبي يوسف رحمه الله أجاز قتل المسلم بالمستأمن، وأنه لو قتل مسلم مستأمناً فإنه يقتل به.

وعند المالكية مسألة غريبة وهي: قالوا: يقتل المسلم بالكافر إذا قتله غيلة، والغيلة هي الجريمة المنظمة التي تكون بترتيب وتنظيم، وفيها نوع من الافتيات على المسلمين والأذية والإضرار بالمسلمين، ففي هذه الحالة أجازوا، مثل أن يستدرج ذمياً ويخرجه إلى خارج المدينة ويخدعه أن عنده شيئاً أو حاجة، فيخرجه عنها ثم يقتله.

وقتل الغيلة من أسوأ أنواع القتل، ولذلك يشدد فيه العلماء رحمهم الله، ومذهب مالك رحمة الله عليه أيضاً من المذاهب التي راعت مثل هذا النوع من الجرائم المنظمة، سواء كانت بشخص أو أشخاص متعددين، فهذه مستثناة؛ لأن فيها نوعاً من المحاربة، والقتل فيها ليس من جهة القصاص إنما من جهة المحاربة، كأنهم حينما نظموا قتل الذميين داخل بلاد المسلمين خرجوا عن مطلق أمان المسلمين، لا من جهة أنهم يقتلون قصاصاً.

والفرق بين القولين: أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يجعل الحق في قتل من قتل الذمي لأولياء الذمي، ولكن عند المالكية يكون الحق في قتله للسلطان.

وبناءً على ذلك: لو عفا أولياء الذمي في قتل الغيلة؛ فإن الإمام أبا حنيفة يسقط القصاص مع الجمهور، ولكن الإمام مالكاً لا يسقط القصاص؛ لأن الحق ليس لأولياء الذمي، ولم يره من جهة الدم، أي أن دم الكافر يكافئ دم المسلم، وللإمام مالك رحمه الله مسائل عجيبة جداً في مسائل القتل، وإلى ذلك أشار شيخ الإسلام رحمة الله عليه في القواعد النورانية؛ لأن مذهبه مستقى من مذاهب الصحابة رضوان الله عليهم، ومن فهم أصول الشريعة، ومذهبه من أشد المذاهب -كما بينا غير مرة- في مسألة القتل؛ لأنه ينظر إلى أصول في الشريعة لا بد من مراعاتها وتحقيق مقصود الشرع الذي وردت من أجل تحقيقه، فقال: إن هذه المسألة وحدها وهي مسألة الغيلة تستثنى في قتل المسلم بالكافر.

وعلى كل حال: فالذي يظهر من خلال النصوص أنه لا يستباح دم المسلم بالكافر، سواء كان الكافر مرتداً أو حربياً أو ذمياً أو مستأمناً، لكن إذا كان هناك افتيات وأذية ومحاربة لجماعة المسلمين بالخروج عليهم، فهذا أمر يرجع تقديره إلى الوالي، فإن رأى المصلحة في هذا قتله من باب الحرابة لا من باب القصاص فلا بأس، أما من باب القصاص فالنصوص واضحة على أن دم الكافر لا يكافئ دم المسلم بحال.

وعلى هذا فإنه يترجح مذهب الجمهور من حيث الأصل، ويخرج باب الغيلة عن باب القصاص من الوجه الذي ذكرناه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>