[تعتبر صيغ الوقف غير الصريحة بأمور]
قال رحمه الله: [وتشترط النية مع الكناية] الكناية لا يُحكم بالوقف بها إلا بأحد ثلاثة أمور: الأول: أن ينوي في قرارة قلبه، ونحن لا نستطيع أن نكشف عما في ضمائر الناس، ولا نستطيع أن نطَّلع على ما في قلوبهم، فذلك أمره إلى الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، ولذلك قال تعالى: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:٩ - ١٠]، وقال: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الأنفال:٤٣]، فهو وحده سبحانه الذي يعلم ما في قرارة النفوس، وما انطوت عليه القلوب، لكن لنا حكم الظاهر، فإذا تلفظ بهذا اللفظ المحتمل، فإننا نتوقف؛ لأن اللفظ المتردِّد يوجب التوقف، فكل ما تردد بين شيئين لم يجز لك أن تصرفه إلى شيء دون آخر يحتمله إلا بدليل.
ولذلك يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:٦]، فلما كان خبر الفاسق متردداً بين كونه صدقاً وبين كونه كذباً أوجب التوقف، فكل شيء متردِّد يوجب التوقف ما لم يقم الدليل على رُجحان ظن من الظنون على بقيتها.
فإذا كانت ألفاظ الكناية محتمِلة فإنا نتوقف ونقول: هذا لفظ لا يدل على الوقفية صراحة.
اختصم إليك ورثة، وقال أحدهم: سمعت أبي يقول: سبّلت مزرعتي، فقال بعضهم: هذا وقف، وقال بعضهم: قصد التسبيل في ذلك العام، نقول: إنه ليس من ألفاظ الوقف الصريحة ما لم يكن الميت قد صرح لهذا الذي يزعم الوقفية أنه قصد الوقفية؛ لأنه أمر متعلق بالنية، فإذا لم يصرح له فإنا نسأل: هل هناك لفظ آخر غير قوله: سبّلت بمزرعتي؟ قال: ما قال إلا تصدقت بمزرعتي.
فنقول: هي صدقة في ذلك العام قطعاً من حيث الأصل؛ لكن لا يُحكم بوقفيتها على الدوام ما لم يصرح بنيته أو يوجد دليل آخر من اقتران لفظ، أو وجود حكم من أحكام الوقف الخاصة به، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فإن خلا لفظ الكناية عن هذه الثلاث فلا نحكم بالوقفية بمجرده؛ لأنه ليس بصريح.
قال رحمه الله: [أو اقتران أحد الألفاظ الخمسة] (أو اقتران أحد الألفاظ الخمسة) هذا الأمر الثاني، وهو أن يقترن بقوله: (داري صدقة موقوفة)، فإنه لما قال (داري صدقة) لم يدل على الوقفية صراحة؛ إنما يدل دلالة محتمِلة، فلما قال (موقوفة) دل هذا على أنها وقف، وأن لفظ (صدقة) لما وصف بكونه وقفاً أوجب الحكم بالوقفية.
وكذلك إذا قال: (داري صدقة مسبّلة)، (داري صدقة محبوسة)، (داري صدقة مؤبَّدة)، (صدقة محرمة)، فهذه هي بقية الألفاظ الخمسة، وحينئذ فإننا نحكم بالوقفية.
فهذا هو الأمر الثاني، فإما أن توجد النية، وهذا يفتقر إلى أن يُخبرك الشخص المتلفظ، أو يخبر العدلين حتى يُحكم بذلك إذا لم يكن موجوداً كالميت ونحوه.
أو يقترن بهذا اللفظ الذي هو من ألفاظ الكناية الثلاثة (تصدقت حرمت وأبدت) لفظ من ألفاظ الأوقاف سواء كان لفظاً صريحاً أو لفظ كناية؛ لأن الكناية مع الكناية عزّزت من المقصود وارتقت من الاحتمال إلى كونها أشبه بالصريح، فغلّبت الظن بأنه قصد الوقفية، وحينئذٍ يُحكم بكونه وقفاً إذا اقترن بأحد الألفاظ الخمسة.
والمراد بذلك أنك إذا اخترت لفظاً من ألفاظ الكناية بقيت خمسة ألفاظ، ثلاثة صريحة، واثنان منها كناية، فإذا قال: تصدقت، أو قال: حرّمت، أو قال: أبّدت؛ فإنه لابد أن يضيف إليها لفظاً من هذه الألفاظ الخمسة الباقية.
قال رحمه الله: [أو حكم الوقف] هذا هو الأمر الثالث الذي نحكم بسببه بالوقفية إذا اقترن بالكناية، كأن يقول: (داري صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورَّث)، فالذي لا يباع ولا يوهب ولا يورث إنما هو الوقف، فإذا صرّح بذلك فقد دل على أنه قصد بها صدقة الأوقاف، وأنه أراد تحبيسها وإيقافها، فيحكم بوقفها.
فلا يحكم بالوقف بلفظ الكناية إلا مع أحد ثلاثة أمور: أولها: النية، وهذا يفتقر إلى كلام الشخص نفسه، وإخباره أنه قصد الوقفية.
والأمر الثاني: اقتران لفظ من الألفاظ الخمسة الباقية.
والأمر الثالث: أن يقرن بلفظ الكناية حكماً من أحكام الوقف، فيقول: (مزرعتي صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث)؛ فإن هذا من اختصاص الوقف، ومن أحكام الوقف، فيكون ذكر هذا الحكم دالاً على إرادته للوقفية فيُحكم بكون الوقف ظاهراً، وحينئذٍ يكون لفظ الكناية بمثابة الصريح الموجب للوقفية.