أشكل عليّ استحقاق المجني عليه لأكثر من دية إذا جني على أكثر من حاسة، بينما لو جني على النفس لم يستحق إلا دية واحدة، بينوا لنا هذا الإشكال، أثابكم الله؟
الجواب
هذا لا إشكال فيه، والجواب عنه من عدة وجوه: الوجه الأول: أن الأصل يقتضي تجزئة الجنايات كما هو معلوم، وجاء قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الرجل الذي جني عليه بالجنايات، وأوجب فيها أربع ديات دون إنكار من الصحابة، فصار عند الفقهاء ناقلاً عن الأصل، ولذلك يعتبرون أنه مستثنى، وركبوا منه مسألة الجناية على المنافع، هذا الوجه الأول، وهو أن تقول: لا تعارض بين العام والخاص، الأصل العام أن المقدم للجنايات ويعني إذا جني مثلاً على العين كلها فيها دية واحدة مع أن منفعة الإبصار تابعة للعين، ومع ذلك لم تجب ديتها، لم نقل: إن الإبصار منفعة، ثم لم نجزئ مثلاً الحاجب؛ الجفن الأعلى فيه ربع الدية، والجفن الأسفل فيه ربع الدية، والرموش كذلك العليا فيها الربع، والسفلى فيها الربع، ومع ذلك تجب دية واحدة، وهنا نقول: تجب أكثر من دية، والجواب أننا نقول: الأصل عندنا أنها تتداخل، لكن جاء قضاء عمر فاستثنى من الأصل، وهذا منهج أصولي لا تستطيع أن تتكلم فيه؛ لأنك لو اعترضت عليه عارضتك التخصيصات في الشريعة، لأنك تقول بها وتعتبرها، فهذا شيء مألوف في الشريعة أنه يجعل شيئاً عاماً ثم يستثني أشياء خاصة.
الوجه الثاني: أن يقال -وهو أقوى-: أن المستقل ليس كالتابع، فالمستقل لا يأخذ حكم التابع، والجناية المستقلة تأخذ حكم الاستقلال ولا يلتفت إليها تابعة لغيرها؛ لأن الله أعطى كل شيء حقه وقدره، {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}[الطلاق:٣] فالنبي صلى الله عليه وسلم أحل لـ كعب بن عجرة رضي الله عنه وأرضاه أن يحلق رأسه وأن يفتدي مع أن الأصل لو أن شخصاً وقعت منه الجناية على الأعضاء سواء كان في ضمان حق الله عز وجل كما في الفدية، أو في ضمان حق المخلوق كما في الديات فإننا نوجب عليه التبعية؛ لأن التابع تابع لكن إذا جنى في الجناية فهناك منهج للشريعة وهي معاقبة الجاني، فإذا قلت: إذا أتلف هذا الشيء وجبت عليه دية واحدة، فحينئذ هذا يخالف أصل الباب؛ لأنه جنى على سمعه، فهذه جناية مستقلة، وجنى على بصره، وهذه جناية مستقلة، وجنى على عقله، وهذه جناية مستقلة، أرأيت لو أن شخصاً هجم على بيت فيه ثلاثة أشخاص، فضرب أحدهم فأصمه، والثاني أخرسه، والثالث أصبح مجنوناً، ألا توجب على الجاني ثلاث ديات، تقول: نعم، هذا الأصل، نقول: لماذا؟ تقول: لأن كل فعل له حقه وقسطه، نقول: ما دام أن كل فعل في شرع الله له حقه وقسطه متفرقاً، كذلك أيضاً له حقه وقسطه مجتمعاً وهو تعظيم للأنفس، يعني منهج للشريعة في الجنايات وحينئذ لا يستشكل الإنسان، لأنه حين اعتدى على السمع نعاقبه عقوبة من اعتدى على السمع مستقلاً، والسمع بذاته له حقه دية كاملة، والبصر كذلك، والعقل كذلك، وهذا لا إشكال فيه، حينئذ نقول: هذا قصد الشريعة، والشرع له أن يقول: دية الإنسان كاملة إذا جنى عليه كاملاً فيكون السمع والبصر تبعاً؛ لأنه ما فقأ عينه، ولو أنه جاء وفقأ عينه فأعماه، ثم ضربه على أذنه فأصمه، ثم قتله وجبت عليه ثلاث ديات، وليست دية واحدة، وهذا الذي أردنا: أن الشريعة تريد كل جناية لها حقها وقدرها، لكن لو أنه قتله فعطل جميع هذه الحواس لا نقول: إن عليه عشر ديات، هذا أمر واضح، يعني: في حالة الجناية كل شيء فعله يؤاخذ عليه، فلما قتل النفس جاء غيرها تبعاً، كما لو جنى على العين فاقتلعها فأصبحت الرموش والشعر والجفن تبعاً، فحينئذ لا يوجد ضمان إلا بنصف الدية مع أن كل واحد من هذه الشعور فيه ربع الدية، فالرمش الأعلى فيه الربع، والأسفل فيه الربع، ثم الجفن الأعلى فيه الربع، ثم الجفن الأسفل فيه الربع، هذه تكملة الدية، ثم العين نفسها فيها نصف الدية لكن هذا كله تبع، فإذا جنى على النفس فقتله وجبت دية كاملة؛ لأنه جنى على النفس فأصبح غيرها تبعاً، لكن لو أنه قبل جنايته على النفس فقأ عينه أو قلع عينيه، أو أصمه، أو أخرسه أو -والعياذ بالله- ضربه حتى جن، أو سقاه سماً حتى أصبح مجنوناً ثم قتله واعتدى عليه، فجنايتان وليست بجناية، وحينئذ لا يقال بالاندراج والتبعية؛ لأنه ينبغي أن يعاقب على كل جناية وجريمة فعلها، وهذا الجواب أشبه وأقوى، وحينئذ نقول: إنه لا تعارض، ففي حالة الجناية على النفس جنى على شيء واحد وهو النفس، وحصلت الجناية على الحواس تبعاً، فبتعطيل النفس تعطلت الحواس وجاء ذلك تبعاً ولم يأت استقلالاً، وعندنا هنا جاء استقلالاً فوجب أن يعاقب على كل جناية بحقها وقدرها، والله تعالى أعلم.