للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[ضمان قيمة المغصوب عند تعذر وجود مثله]

وقوله: [وإلا فقيمته يوم تعذره].

(وإلا) يعني: وإن لم يتمكن من وجود المثل لزمه أن يضمن حق أخيه المسلم بالقيمة، إذاً: القاعدة في الضمان: المثلية إن كان له مثل، فإذا لم يكن له مثل أو كان له مثل ولكن تعذر وجوده فحينئذٍ نقول له: اضمن قيمته، فالضمان يكون -أولاً- بالمثلية، فإن تعذرت المثلية انتقلنا إلى القيمة، والقيمة: أن نقوِّم هذا الشيء الذي أتلفه الغاصب، كشخص -مثلاً- أتلف سيارة غيره، سواءً كان متعمداً أو مخطئاً، فجئنا نطالبه بضمان ما جنته يداه من الإتلاف فقلنا له: ائت بسيارةٍ مثل هذه السيارة، فبحثنا ولم نجد، فحينئذٍ نقول: تقوّم هذه السيارة التي أتلفت ويطالب بدفع القيمة للمالك لها، فلو أتلف سيارةً وتعذر وجود مثلها أو لم يكن لها مثل فحينئذٍ نسأل أهل الخبرة: كم قيمة هذه السيارة؟ قالوا: قيمتها يوم تعذر وجود مثلها عشرة آلاف، نقول: يجب عليك الضمان بالقيمة لتعذر المثلي، فيرفع عشرة آلاف ريال لمالكها.

وقوله: [وما تلف أو تغيب من مغصوبٍ مثلي غرم مثله إذاً، وإلا فقيمته يوم تعذره].

فقوله: (غرم مثله إذاً): التنوين هنا تنوين عوض، وهو عوض عن حرف وعوض عن جملة (فقيمته إذاً) أي: فقيمته في الحين الذي تعذر؛ لأن التنوين هنا عوض عن جملة كما قال تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ} [الزلزلة:١ - ٤] فالتقدير يوم تزلزل الأرض زلزالها وتخرج أثقالها ويقول الإنسان: ما لها {تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:٤]، فهنا التنوين تنوين عوض عن جملة، فقوله: (قيمته إذاً) أي: في الحين إذا تعذر، وهذه مسألة خلافية.

فائدة التنبيه على أن القيمة تكون حين التعذر: أنه ربما أتلف سيارةً في شهر محرم، وكانت قيمة السيارة في شهر محرم عشرة آلاف ريال، ثم بحثنا وكان للسيارة مثل، فجعلنا نبحث عن مثل هذه السيارة مدة أسبوع فنزلت قيمتها -مثلاً- إلى سبعة آلاف ريال، وتعذر وجودها، فالقيمة يوم التعذر سبعة آلاف والقيمة يوم التلف عشرة آلاف، ولربما تكون القيمة يوم الشراء عشرين ألفاً، فحينئذٍ العبرة بوقت التلف، وبعض الشراح يفهم من جملة (قيمته إذاً) أنه يجب حينئذٍ أن يضمن القيمة، وليس المراد يوم التعذر، فعلى هذا القول: يكون الضمان يوم التلف وليس يوم التعذر، (فقيمته إذاً) إشارة إلى الاستحقاق، أي: تلزمه القيمة بسبب عدم وجود المثل، والحقيقة كلا القولين له وجه وإن كان الثاني أظهر.

قال رحمه الله: [ويضمن غير المثلي بقيمته يوم تلفه].

كانوا في القديم يصنعون أشياء لا يمكن أن يصنع مثلها من كل وجه، مثلاً: الأواني في زماننا يمكن إيجاد المثلي؛ لكن في القديم لا يمكن؛ لأنه إذا صنع الحداد إناء ربما وسع فيه وربما ضيق، ولم يكن هناك -مثل زماننا الآن- صبُّ الآنية بطريقة نظامية تعرف فيها أطوالها وتعرف فيها مقاساتها بشكل دقيق يمكن أن يوجد فيه المثل، فكانوا في القديم يمثلون بالأواني؛ لأن الغالب عدم انضباطها، فما كان من المغصوبات لا مثلي له، فحينئذٍ يجب ضمانه بالقيمة.

لكن لو أن شخصاً أتلف مغصوباً لا مثلي له، وقلنا له: يجب عليك أن تدفع القيمة، فرضي صاحب المغصوب، وقال: أنا أرضى بالقيمة ما دام أنه ليس له مثل ثم قال: أنا اشتريته بعشرة آلاف، ونظرنا في الشيء المغصوب وجدنا أن صاحبه استخدمه سنتين كسيارة -مثلاً- فأصبحت قيمتها ثمانية آلاف، فهل العبرة بقيمتها يوم اشتراها، أم العبرة بقيمتها يوم أتلفها أم العبرة بقيمتها يوم اغتصبها؟ وفائدة ذلك: قد تكون قيمتها يوم الشراء غالية، وقيمتها يوم الاغتصاب دونها في الغلاء، وقيمتها يوم التلف أقل قيمة، فتكون القيمة بالشراء -مثلاً- عشرين ألفاً، فاغتصبها منه في شهر محرم وقيمتها عشرة آلاف، ثم بقيت مغصوبةً نصف سنة مثلاً، فأصبحت قيمتها خمسة آلاف عندما أتلفها، فهل يدفع عشرين ألفاً أو عشرة آلاف أو خمسة؟ اختلف العلماء في هذه المسألة، والأقوى في هذه المسألة قولان: القول الأول يقول: قيمتها يوم اغتصبها، والقول الثاني يقول: قيمتها يوم أتلفها، وهناك قول ثالث يقول: ننظر أغلى القيمتين؛ لأنه ربما كانت يوم التلف أغلى منها يوم الغصب وهذا قد يقع، ربما قد تكون قديمة فلما أتلفت أصحبت قيمتها أكثر أو ارتفع سوقها مثل: المجوهرات ونحوها، فاليوم الذي أتلفها فيه شاء الله أن قيمتها غالية، أو اغتصب بيتاً وهدمه، وقيمته يوم اغتصبه يعادل مائة ألف، ويوم أتلفه غلت قيمة المواد البنائية، فأصبحت قيمة بنائه خمسمائة ألف، فبعض العلماء يقول: نعتبر القيمة باليوم الذي اغتصب فيه الشيء، فإنه قد أصبح في ذمته ذلك الشيء، فنحن نوجب عليه ضمان القيمة بيوم الغصب.

ومنهم من قال: لا.

هو أخذ البيت الذي هو العقار، أو أخذ السيارة أو أخذ الدابة، ولكنه كان ملزماً بردها؛ لأنها موجودة، ولم يخاطب شرعاً بالضمان إلا بالتلف؛ لأن التلف هو الذي أوجب علينا أن نخاطبه بالضمان، وإلا لو كانت غير تالفة لردها، فأصبحت ذمته مشغولةً بالقيمة يوم التلف.

وهذا القول من أقوى الأقوال: أن ضمانها يكون بقيمتها يوم تلفت، وإن كان الاحتياط بالنظر إلى أغلى القيم لا شك أنه أقوى، خاصةً وأن فيه نوعاً من التعزير، وهذا مقصود شرعاً للغاصب فيغرم أعلى القيمتين، وهذا على خلاف الشرع من حيث الأصل ولكن براءة لذمته، وبالاعتداء والغصب صار الأمر مختلفاً.

الخلاصة: أننا نطالبه بالضمان بقيمة العين التالفة المغصوبة يوم تلفت ولا ينظر إلى قيمتها يوم اشتريت، ولا ينظر إلى قيمتها يوم اغتصبت، فيلزم بضمانها يوم تلفت؛ لأنه كان مغتصباً للعين مخاطباً بردها ولم يخاطب بالقيمة إلا لما أتلف، فأصبحت ذمته مشغولةً بالقيمة في يوم التلف وليس قبله؛ فلذلك نقول: يجب عليك دفع قيمتها يوم تلفت.

<<  <  ج:
ص:  >  >>