بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وهو خمر من أي شيء كان].
تقدم الحديث عن ضابط الخمر، وبيّنا أنه عام شامل لكل ما أثّر في العقل، سواءً كان من المشروبات القديمة التي كانت تنتبذ من التمر والشعير والزبيب والعسل -كما ورد في أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه- أو كان شراباً يتخذ من غير ذلك.
والأصل في هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع القاعدة على العموم، وجعل الحكم معللاً بعلة وهي الإسكار، فكل شيء أزال العقل وأثر فيه تأثيراً بيناً واضحاً فإنه آخذ حكم الخمر، ثم بينا أن تحريم الخمر يدور حول علة الإسكار وزوال العقل، وهذا يقتضي إلحاق المخدرات بجميع أنواعها وأصنافها سواءً كانت نباتية كنبات الخشخاش الذي يستخرج منه الأفيون، أو كانت غير نباتية مثل ما يسمى بالمخدرات الكيماوية، فهذا كله محرم، والأصل في تحريمه: أن السنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم الخمر؛ لأنها مؤثرة في العقل، وكل ما أزال العقل وأثّر فيه فحكمه حكم الخمر، ولحديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم:(نهى عن كل مسكر ومفتر)، وهو يدل دلالة واضحة على عموم الحكم، وأن المخدرات بجميع أنواعها تعتبر محرمة شرعاً، وبهذا بيّن المصنف رحمه الله هذا الأصل: وهو أننا لا نقتصر على تحريم الخمر القديمة، بل العبرة بكل شراب يؤثر في العقل، ويذهب الشعور والإدراك، وهذه هي العلة، (والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً)، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الأصل فقال:(كنت قد نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا، وكل مسكر حرام)، فجعل الحكم يدور مع علته وهي الإسكار، ومن هنا نأخذ بمذهب العموم، وأن العبرة بتغير العقل أو التأثير في العقل، سواءً كان عن طريق الشراب أو كان عن طريق المواد الجامدة كالحشيشة والأفيون المستخرج من نبات الخشخاش، والبنج، والشيكران، وغير ذلك من المواد الجامدة، ويلتحق بهذا: المشمومات، فما يشم من المواد الطيّارة المؤثرة في العقل حكمه حكم المشروبات المسكرة، وكذلك ما يحقن عن طريق الإبر، فإنه آخذ حكم المسكرات أيضاً؛ لأن العلة هي التأثير على العقل سواءً كان عن طريق المشروب أو المطعوم أو المحقون أو المشموم، فكل ذلك محرم شرعاً.
وإذا ثبت تحريمه فإنه محرم على الإنسان أن يتعاطاه، ومحرم على الغير أن يحقنه أو يناوله أو يعينه على ذلك، ومن هنا بين النبي صلى الله عليه وسلم حرمة الخمر، وحرمة الوسائل المفضية إلى الخمر: كصناعة الخمور وترويجها، وصناعة المخدرات وترويجها، والدعاية إلى الخمور وإلى المخدرات محرم شرعاً، والقاعدة تقول:(الوسائل تأخذ حكم مقاصدها)، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأصل وهو: تحريم الوسائل المفضية إلى الخمر، وإلى كل مضر بالعقل حينما لعن الخمر، وشاربها، وعاصرها ومعتصرها، وساقيها ومستقيها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها وآكل ثمنها، فلعن فيها هؤلاء العشرة، وإذا نظرت إلى هؤلاء العشرة وجدت فيهم من هو معين عليها، كساقي الخمر، وعاصرها، وحاملها، وبائعها، وآكل ثمنها، فكل هؤلاء أعانوا على الوصول إلى المحرم، وهكذا المخدرات يحرم تصنيعها، وترويجها، وتحبيب الناس إليها، حتى لو جلس مع أخيه وقال له: إنها تحدث النشاط، والسرور، وهي في الواقع: لا تزيد الإنسان إلا هماً إلى هم، وغماً إلى غم، فإن الله لم يجعل في محرم خيراً، ومن هنا نعلم أن الترغيب فيها ليس منحصراً أن يدعو إليها دعاية للجماعة، بل دعاية الأفراد كذلك، فلو أنه رغب شخصاً فيها، أو مدحها، أو وضعها في وسيلة إعلامية تروج إلى شربها، أو تروج إلى تعاطيها، أو تحببها إلى النفوس، فكل هؤلاء ملعونون-والعياذ بالله- بلعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد لعنه الله، ومن لعنه الله لم يبق شيء في الأرض ولا في السماء إلا لعنه، وإذا حلت اللعنة على القلب -والعياذ بالله- تنطمس البصيرة، ويضعف فيه داعي الإيمان، ولذلك قال تعالى:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}[محمد:٢٣]، فيصبح الإنسان من هؤلاء تمر عليه المواعظ فلا تؤثر فيه، ويذكر بالله فلا يتذكر؛ لأن الله يقول:(فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)، فمن أشد الذنوب ضرراً على العبد الذنوب التي ورد الوعيد عليها باللعن، ومن هنا شُدد في الخمر من هذه الوجوه كلها تعظيماً لحرمات الله، وتعظيماً لحدود الله، وزجراً للنفوس المؤمنة عن هذه المحرمات الموبقات المهلكات، حتى يكون الإنسان على السنن التي فطر الله عليها خلقه من البعد عن هذه المؤذيات والمضرات.
قال المصنف رحمه الله:[ولا يباح شربه للذة].
ولا يباح شرب الخمر للذة، وهذا بإجماع العلماء، والذين يشربون الخمر يزعمون أنها تنسيهم الهموم والغموم، ويدعون أنها تحدث الهزة والنشاط، ويدعون أنها تفرح القلب، وكل ما ادعوه باطل، ومن تزيين الشيطان، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ}[النمل:٢٤]، فهذا من صدود الشيطان، ويكون هذا في القلوب الضعيفة بسبب ضعف الإيمان، فيقلب الحق فيها باطلاً، والباطل حقاً، فهو يروج لهم أن فيها لذة، وهي وإن كانت لذة ساعة فهي ألم دهر، وإن كانت متعة لحظة فإنها عذاب دهر، فكم قرحت من قلوب! وأبكت من عيون! وأصابت أصحابها من الهم والغم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل! حتى أصبحوا مأسورين بها، لا يستطيعون الفكاك عنها، فأصبحت داءً تزيدهم هماً إلى همهم، وغماً إلى غمهم نسأل الله السلامة والعافية! ومن قرأ بحوث أهل النظر من الأطباء، وأهل الاختصاص، وما تعقبه الخمر من الويلات والآهات والمفاسد والشرور في دنيا الإنسان وفي جسده، وصحته الروحية، وما يعقب ذلك من الآلام؛ يجد أن هذه اللذة التي تُشرب الخمر من أجلها أحقر من أن تورد صاحبها هذه الموارد، فقد أجمع الأطباء على أنها تدمر الأعصاب، وتدمر الجهاز العصبي بآفات ومفاسد عظيمة، وتذهب تركيز الإنسان، وتفسد ذهنه وحافظته وفكره وشعوره وأحاسيسه، وإذا شربها اختل عقله؛ فأصبح أحط من البهيمة -والعياذ بالله- حتى إنه لربما اقترف الأمور العظيمة، ولذلك شربها بعضهم فزنى بأمه، ومنهم من شربها فوقع على بنته نسأل الله السلامة والعافية! فأي لذة هذه؟! أي لذة يعقبها هذا الويل، وهذا البلاء، وهذا الشقاء، وهذا العناء؟! ومن هنا: ذكر المصنف رحمه الله أن من شربها للذة -وهذا على ما يعرف عند الناس، وتحقيقاً للأصل الذي سيبني عليه عقوبة شرب الخمر- فإنه قد وقع فيما حرم الله عليه بإجماع العلماء رحمهم الله.