[بيان المحرمات بالمصاهرة وحكم كل نوع منها]
قال رحمه الله: [ويحرم بالعقد زوجة أبيه وكل جد] قوله: (ويحرم بالعقد) هذا النوع الرابع من المحرمات، أولاً: المحرمات بالنسب، وهن السبع اللاتي تقدمن، ثم بعد ذلك المحرمات بالملاعنة التي ذكرنا، ثم بعد ذلك النوع الثالث الرضاع وانتهينا منه.
ثم بعد ذلك سيشرع الآن في النوع الرابع وهو المصاهرة.
والمصاهرة: مفاعلة من الصهر، ويأتي هذا في الأصول والفروع من حيث الزوجية، فتأخذ أصلك وتأخذ فرعك، وتنظر إلى زوجة الأصل وزوجة الفرع حتى تضبط المحرمات من المصاهرة وهي أربع، ولابد أن تحفظهم؛ لأن هؤلاء النسوة محارم لك، والمحرمات من المصاهرة يحرمن إلى الأبد، وهن محارم.
وقلنا: المحارم ثلاثة: النسب، والرضاع، والمصاهرة، والواجب على كل مسلم بالغ أن يعلم هؤلاء المحارم حتى يعرف من هي المرأة التي يجوز له أن يختلي بها، والتي يجوز أن يصافحها، والتي يجوز أن يسافر معها، فبيّنا حكم النسب، وبيّنا أن الرضاع يأخذ حكم النسب، بقي المصاهرة وهو النوع الثالث من المحارم، وهو الرابع مما ذكره المصنف.
المصاهرة إذا أردت أن تضبطها أربع من النساء، والأربع تأخذ اثنتين منهن لأصلك ولفرعك، واحدة لأصلك وواحدة لفرعك، زوجة أصلك وزوجة فرعك، ثم اثنتين منهن أصل لزوجتك، وفرع زوجتك، وهما أم الزوجة، وبنت الزوجة، حتى تحفظ المصاهرة تأخذ هذا الضابط، فعندك أصولك وفروعك فانظر إلى نسائهم، زوجات الآباء وزوجات الأبناء، هذان نوعان من النسوة من جهة الأصول والفروع، وعندنا نوعان من النسوة من جهة الزوجة: أصلها وفرعها، فتقول: أم الزوجة وبنت الزوجة، فأصبحن أربعاً.
نبدأ أولاً بزوجات الأصول: هي كل أنثى عقد عليها والدك وإن علا، سواء دخل بها أو لم يدخل، سواء طلقها أو بقيت في عصمته أو مات عنها، فإنها محرم لك إلى الأبد.
زوجات الأصول: وهي كل أنثى عقد عليها أبوك أو أبوه وإن علا، وسواء كان من جهة الأب أو من جهة الأم كوالد الأم وأبيه، والدليل على هذا النوع الأول من أنواع المصاهرة قوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:٢٢] معنى قوله: (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) قيل: إن إلا بمعنى: ولا ما قد سلف، ومنه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء:٩٢] أي: ولا خطأً كأن يتساهل ويتعاطى الأسباب.
ومنه قول الشاعر: وكل أخٍ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان أي: والفرقدان.
وحمل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (ثمن الكلب سحت إلا الكلب الضاري) أي: والكلب الضاري لا يحل شراؤه وبيعه.
الشاهد: أن قوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:٢٢] أي: ولا ما قد سلف، فلا تستديموا نكاحهن وفارقوهن.
ما موضع الشاهد من هذه الآية؟ موضع الشاهد أن الله يقول: {وَلا تَنكِحُوا} [النساء:٢٢] فحرم علينا أن ننكح ونتزوج ما نكح آباؤنا، وانظر إلى قوله: (ما نكح) والمرأة منكوحة للرجل بالعقد، فإنك تصف المرأة أنها منكوحة للإنسان بمجرد العقد عليها، ومن هنا قالوا: لا يشترط في تحريم زوجة الأب أن يدخل الأب بها، فلو أنه عقد عليها الساعة وطلقها مباشرة فهي محرم لك إلى الأبد، ومحرمة عليك إلى الأبد.
قوله: (ولا تنكحوا ما نكح) أي: ما عقد عليه آباؤكم سواءً بقين أو طلقن أو مات الآباء عنهن وهن في عصمة إلى آخره.
فلو سألك سائل: عن امرأة عقد عليها جده لأبيه ثم توفي عنها، أو طلقها، أو لم يدخل بها وطلقها قبل الدخول؟ تقول: هذه محرم لك إلى الأبد، وعلى هذا قالوا: يشمل هذا الأب من جهة الذكور ومن جهة الإناث، أي: الذي يدلي بذكور ويدلي بإناث، فإن زوجته محرمة إلى الأبد.
قال رحمه الله: [وزوجة ابنه وإن نزل] قوله: (وزوجة ابنه) النوع الثاني من المحرمات من المصاهرة: زوجات الأبناء، زوجات الأبناء يأخذن نفس الحكم، بمجرد أن يعقد ولدك على امرأة يحل لك أن تقابلها، وأن تصافحها، وأن تختلي بها، وأن تسافر معها، سواء دخل بها أو لم يدخل، ما الدليل على ذلك؟ قوله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:٢٣]، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله حرم علينا حليلة الابن: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء:٢٣]؛ لأن الآية الكريم صدرت بقوله جل ذكره وتقدست أسماؤه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} [النساء:٢٣]، فالعقد يقول: وحرمت عليكم حلائل أبنائكم، فلما كان هذا أصل التقدير معناه: أنه إذا كانت المرأة حليلة لولدك فإنها بمجرد أن تصير حليلة فهي محرم لك.
حسناً! لو أن الابن طلقها بعد العقد مباشرة أو مات عنها بعد العقد مباشرة فهي محرمة عليك إلى الأبد، فالله تعالى يقول: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء:٢٣]، قال العلماء: وصف الله هذا النوع من المحرمات بكونه حليلة، وبالإجماع: أن الولد لو عقد على امرأة صارت حليلة له ومحرماً لوالده، أي: أن المرأة حليلة للرجل بمجرد أن يعقد عليها، وهذا بحكم الشرع، والشرع وصف حليلة الابن بكونها محرمة، إذاً فالقاعدة: أن كل امرأة عقد عليها الابن فهي محرمة على والده إلى الأبد.
يشمل هذا ابنك المباشر وابن ابنك وابن بنتك وإن نزل، فلو سئُلت عن ابن بنت ونحو ذلك تزوج امرأة وعقد عليها جاز لك بعد العقد مباشرة أن تدخل وتسلم عليها؛ لأنها أصبحت محرماً لك بمجرد العقد عليها.
قوله: (وإن نزل) ابن ابن وابن بنت وإن نزل، تمحض بالذكور أو تمحض بالإناث كما ذكرنا، والدليل عموم قوله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء:٢٣]، ولم يفرق بين ابن وآخر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف الحسن بأنه ابن له، مع أنه بواسطة أنثى، فدل على أن من تمحض بالذكور أو تمحض بالإناث أنه ابنك ما دام أنه فرع لك.
قال: [دون بناتهن وأمهاتهن] قوله: (دون بناتهن وأمهاتهن)، فمثلاً: زوجة الأب لها بنت الذي هي ربيبة الأب، الوالد تزوج خديجة فخديجة بنتها محرم لوالدك؛ لأنها ربيبته، يجوز لك أن تتزوج ربيبة والدك، فهي حرام على والدك وحلال لك أنت، فتحريم المصاهرة يختص بمن ذكرنا.
قوله: (وأمهاتهن)، مثل: أن يتزوج الابن خديجة بمجرد عقد الولد على خديجة تحرم عليه أمها؛ لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء:٢٣]، لكن هذه الأم تحل لأبيه، فيجوز لأبيه أن يتزوجها، مثلما ذكرنا في الربيبة التي هي بنت زوجة الإنسان فهي محرم له ويحرم عليه نكاحها، ويجوز لابنه أن يتزوجها، وكذلك زوجة الابن أمها محرم للابن وحرام عليه أن يتزوجها، لكن يجوز لوالده أن ينكحها.
فالتحريم قيده الله عز وجل بضابطه، فأنت إذا قلت: بنت زوجتي حرام عليَّ وهي الربيبة، لكن ليست على الولد بحرام، فالابن يجوز له أن يتزوج الربيبة التي هي بنت زوجتك وهي حرام عليك، وكذلك أم زوجتك حرام عليك لكنها ليست بحرام على ابنك فيجوز له أن يتزوجها، والدليل على هذا قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء:٢٤]، فإن التحريم قصر على الابن إذا تزوج امرأة أن ينكح أمها، لكن لم يحرم على أبيه ذلك، وقصر على الأب إذا كان قد تزوج امرأة لها بنت أن ينكح بنتها، لكن لم يحرم على ابنه ذلك، فيجوز له أن ينكحها؛ لأنها ليست بربيبة له وإنما هي ربيبة لأبيه، وكذلك أم زوجة أبيه ليست بأم زوجته وإنما هي أم لزوجة أبيه، فالحكم واضح في هذا، تقصر التحريم على موضعه الذي ورد به وتبقي ما عدا ذلك على الأصل من الجواز، وإذا راجعت المسألة فهي واضحة إن شاء الله.
قال: [وتحرم أم زوجته وجداتها بالعقد] قوله: (وتحرم أم زوجته وجداتها بالعقد)، هذا النوع الثالث أم الزوجة.
عندنا نوعان باقيان: أم الزوجة، وبنت الزوجة، وانظر إلى حكمة الله سبحانه وتعالى، وكمال لطفه، ودقة هذه الشريعة الإسلامية العظيمة، حينما جاءت تحرم أم زوجة الإنسان، الغالب أنه إذا عقد الرجل على امرأة فالبنت أجمل من أمها، وقلّ أن تجد رجلاً يطلق بنتاً ويتزوج أمها، فجعل الله تحريم أم الزوجة بمجرد العقد على ابنتها، ولأن البنت يصيبها من الغيرة الشديدة والأمر العظيم من الحقد على أمها لو أباح الشرع أنه لا يحرم التزوج بأمها إلا بعد الدخول بها، لكن جعل تحريم الأم بمجرد العقد على البنت، أما العكس إذا تزوج أماً فإن البنت وهي الربيبة لا تحرم إلا بعد الدخول بأمها، وذلك لقوله تعالى: ((وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ)) [النساء:٢٣]؛ فانظر كيف التوسعة! وفي الغالب أن الرجل لا يطلق امرأة ويتزوج أمها؛ لأن الغالب أن البنت أجمل من أمها وأكمل وأحظى عند الزوج، وهذا شيء جبلي فطري، والشريعة لا تعارض الغرائز والأشياء الطبيعية، إنما تريد أن تهذّب وتقوّم وتضع كل شيء في نصابه: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} [الأعراف:٥٢]، فحكم الله الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين سبحانه! سبحانه ما أحكمه! وينبغي على طالب العلم إذا تعلم هذه الأحكام أن يزداد من العقيدة والإيمان، ما فائدة أن يعرف الإنسان الحكم ويقول: هذا حلال أو حرام فقط، هذا لا يكفي، بل ينبغي أن يصحبه اليقين، وأنه ليس هناك أكمل ولا أبدع ولا أجمل ولا أتقن من حكم الله سبحانه وتعالى قال سبحانه: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام:١١٥] وقال سبحانه: {والله يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:٤١]، من هذا الذي يستطيع أن يستدرك على رب العزة والجلال، جل جلاله وتقدست أسماؤه؟!! لقد جعل الله تحريم الأم بمجرد العقد على البنت، لكن البنت التي هي أحظى وأجمل إنما جعل تحريمها بالدخول على أمها، فجعل الأمر على السعة.