[اختصاص الحداد بالزوجات]
(كل متوفى زوجها عنها).
أي: كل امرأة توفي عنها زوجها، وبناء على ذلك: فإن الرجل بالإجماع لا يحتد، ويختص الحداد بالنساء كما ذكرنا، وكذلك أيضاً (كل متوفى) يشمل الصغيرة والكبيرة، وبناء على ذلك: لو كانت التي توفى عنها زوجها صغيرة وعمرها تسع سنوات -مثلاً- ولم تحض بعد، فإنها تلزمها عدة الوفاة، لحديث معقل بن سنان الأشجعي رضي الله عنه وأرضاه في قصته مع عبد الله بن مسعود رضي الله عن الجميع، فقد ذكر قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في عدة الوفاة للمرأة المعقود عليها.
إذا ثبت هذا فالمرأة الصغيرة تعتد عدة الوفاة، ودليلنا على ذلك: عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً) والمرأة الصغيرة داخلة في هذا الأصل.
كذلك أيضاً من الأدلة: ما ثبت في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو حديث عن أم سلمة رضي الله عنها، والحديث في الصحيحين-: (أن امرأة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! إن ابنتي توفي عنها زوجها وهي تشتكي عينيها، أفنكحلهما؟ قال: لا، لا، مرتين أو ثلاثاً) وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسألها هل ابنتها بلغت أم لم تبلغ، (وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال) خاصة أن المرأة إذا سألت وقالت: إن ابنتي.
الغالب أنها تكون دون البلوغ؛ لأنها لو كانت كبيرة لأتت البنت بنفسها وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الحديث أصل في أن الحداد للصغيرة والكبيرة، وهذا مذهب جمهور العلماء، ولذلك هو حق -فيه معنى الحق- للزوج، والصغيرة لزوجها عليها حق.
ثانياً: أنها ترث من الزوج، والأصل حديث معقل، وعدة الوفاة في الأصل مرتبطة بالإرث، فقوله: (كل امرأة) يدل على أن المرأة إذا كانت صغيرة تلزم بعدة الوفاة.
من الذي يأمرها بعدة الوفاة ويراقبها؟ وليها، يقوم وليها عليها، ويجنبها ما تجتنبه المعتدة، مثل الصغير إذا حج أو اعتمر فإنه يقوم وليه بمنعه من محذورات الإحرام.
كذلك أيضاً في قوله: (كل) عموم؛ لأن (كل) من ألفاظ العموم، فشمل هذا اللفظ المرأة المسلمة والكتابية؛ لأن المسلم يحل له نكاح الكتابية اليهودية والنصرانية بشرط أن تكون حرة، ولا يجوز له أن ينكح بالعقد إماء أهل الكتاب، وهو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء:٢٥]، فاشترط في الرقيقة التي تنكح: عدم الطول، واشترط فيها خوف الزنا، واشترط أن تكون من الفتيات المؤمنات، فدل على أن الكتابية لا يجوز نكاحها إذا كانت أمة.
إذاً: المسلم لا يموت إلا عن زوجة مسلمة أو كتابية التي هي اليهودية أو النصرانية، فإذا توفي عن امرأة يهودية أو نصرانية عقد عليها فإنها يلزمها الحداد، واختلف العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة، فمنهم من قال: اليهودية والنصرانية لا يلزمها الحداد إذا توفي زوجها المسلم، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر).
وأجيب بأن هذا الحديث خرج مخرج الغالب، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة:٢٣٤] فعمم الله عز وجل في كل مسلم ترك وراءه زوجة أن تحد عليه، وبناء على ذلك فهذا النص القرآني العام أصل، ويجاب عن الحديث بأنه خرج مخرج الغالب.
وهناك جواب من وجه ثانٍ: وهو أن الكتابية تؤمن بالله وتؤمن باليوم الآخر، فهي تؤمن أن الله موجود، وإن كانت تشرك بالله حينما تقول: إن عزيزاً ابن الله، فاليهود يقولون: عزير ابن الله، والنصارى يقولون: المسيح ابن الله، لكنهم يؤمنون أن الله موجود، بخلاف اللاديني الذي لا دين له، وبخلاف الملحد والوثني، ففي الأصل عندها إيمان بالله، وأيضاً عند أهل الكتاب إيمان باليوم الآخر، وهذا جواب طائفة من جمهور العلماء عن هذا الحديث: أن الكتابية من حيث الأصل عندها دين، وإن كان دينها فيه تحريف، ولذلك فرق الله بين الكتابي وغير الكتابي، وقد كانوا يفعلون الشرك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر الله أنهم قالوا: إن عزيراً ابن الله، وقالوا: إن المسيح ابن الله، وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة، ومع ذلك وصفهم أنهم أهل كتاب، وهذا لوجود الأصول العامة من كونهم يؤمنون بأن هناك إلهاً، ويؤمنون بأن هناك رجعة بعد الموت، بخلاف الدهريين والمشركين والوثنيين الذين لا يؤمنون بهذا، فلهذا أعطوا حكماً خاصاً، ولذلك الكتابية إذا نكحها المسلم حل نكاحها؛ لأنها أقرب ويمكن جذبها إلى الإسلام، ولذلك حل نكاح الرجل لنساء أهل الكتاب، ولم يحل نكاح رجالهم لنساء المؤمنين؛ حتى لا يكون سبباً في إغواء نساء المؤمنين، فالمقصود: أن هناك قواسم يمكن أن تكون سبباً في هدايتهن كما بينا هذا في كتاب النكاح.
فالمرأة الكتابية إذا توفي عنها زوجها المسلم يلزمها الحداد على الصحيح من أقوال العلماء؛ لظاهر آية الإحداد، والحديث يجاب عنه بخروجه مخرج الغالب والمخاطبة، وعلى كل حال فالمصنف -رحمه الله- عبر بهذه الأمور لكي يبين لزوم الحداد للجميع.