[مشروعية القضاء]
القضاء سنة متبعة، بها يحق الحق ويبطل الباطل، ولابد للمسلمين من قضاة يقومون بمصالحهم، يردعون الظالم عن ظلمه، ويعطون المظلوم حقه، وبذلك يتحقق العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض.
وقد دلّ دليل الكتاب والسنة وانعقد الإجماع على شرعية القضاء، والعقل أيضاً يدل، قال تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:٤٢]، وقال سبحانه تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص:٢٦]، فأمر بالقضاء.
والقاضي مستخلف على مصالح المسلمين؛ ليحرص على جلب المصالح لهم، ودرء المفاسد عنهم.
وأما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قضى كما في الصحيحين في قصة اختصام علي وجعفر، وكذلك قصة الزبير مع جاره، وكذلك أيضاً ولّى القضاة، كما بعث علياً رضي الله عنه إلى اليمن قاضياً، وبعث معاذاً وأبا موسى الأشعري أيضاً رضي الله عن الجميع، وتولى القضاء من بعده الخلفاء الراشدون، وولوا القضاة على الأمصار وعلى الأقاليم.
وأجمع المسلمون على شرعية القضاء.
والقاضي خليفة عن الإمام العام للمسلمين في هذا الأمر الذي يناط به، وهي أمانة عظيمة ومسئولية جسيمة.
فمن عرف من نفسه الكفاءة والأهلية ولم يجد غيره، أو غلب على ظنه أنه يتعطّل هذا الحق إذا لم يله تعين عليه أن يطلب القضاء، وتعين عليه أن يصير قاضياً، كما قال تعالى: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:٥٥]، وأما إذا وُجد غيره فإن السلامة مندوب إليها، وفعلها أئمة السلف، أنه إذا غلب الفساد في الناس وغلب على ظنه أنه لا يحق حقاً ولا يبطل باطلاً فالسلامة أفضل.
قيل لـ أبي قلابة الجرمي رحمه الله -الإمام الجليل فقهاً وحديثاً- عندما أكره على القضاء وفرّ، فقيل له: كيف وأنت الإمام وعندك العلم والدراية بالقضاء؟ قال: إلى متى يسبح السبّاح في البحر؟ يعني: إذا عظمت الفتن أصبحت مثل الشخص الماهر القوي في داخل بحر، يسبح يسبح حتى يتعب ثم يسقط، وهذا لمن غلب على ظنه أنه لا يقوى على الفتن.
وقال أبو حنيفة حينما دعي إلى القضاء: والله! لا أصلح، إن كنتُ صادقاً فقد صدقت، وإن كنتُ كاذباً فكيف تولي من يكذب؟! وكان هو وإياس مرشحين للقضاء، قيل: امتنع إياس وامتنع أبو حنيفة، فلما قال أبو حنيفة ذلك قال إياس: يا أمير المؤمنين! أتيت بإمام أوقفته على شفير جهنم حلف عليها يميناً يفتدي منها بكفارة، قال: أما وقد عرفت فقهها لا يقضي غيرك.
وكان لدى إياس رحمه الله ذكاء.
وقيل: لما قيل لـ أبي حنيفة: لماذا لم تلِ القضاء وأنت أنت؟!! قال: إني لا أملك القلب الذي أقضي به عليك وعلى أمثالك.
يعني: لا أملك الصرامة والقوة أن أنفذ الحق، فلذلك لا يمكن أن يكون القاضي قائماً بحق الله عز وجل إلا إذا كان حازماً، وصدق وبر واتقى الله عز وجل.