للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم طلاق الرجل للمرأة الأجنبية]

طلاق الأجنبية يأتي على صورتين: الصورة الأولى: أن يطلق الأجنبية طلاقاً مُنَجَّزاً، كأن يقول لها: أنتِ طالق، أو كرجل أعزب يقول: زوجتي طالِق؛ فإنه لا ينفُذ طلاقه بإجماع العلماء.

ولكن من خاطب امرأةً أجنبية وهو يعلم أنها أجنبية وليست بزوجةٍ له وقال لها: أنت طالق، واشتكت إلى القاضي فإن القاضي يُعزِّرُه ويؤدبه، ويعتبر هذا من أذية الناس والإضرار بهم، وتُعتَبر نوعاً من الإساءة، فيُعَزِّره بحسب حال المرأة التي خاطبها، وبحسبه هو.

واختلف العلماء في صورةٍ يُلحقها بعض العلماء بهذه الصورة، وهي: أن يشير لامرأةٍ فيقول: هي طالق، ويُظنها زوجةً له، وتَبيَّن أنها ليست زوجته، أو خاطب أجنبيةً يظنها زوجته فقال: أنتِ طالق مني؛ فقال بعض العلماء: حُكْم هذا كحكم طلاق الأجنبية؛ وذلك لأنه علَّق الطلاق بالمعيَّن، وتبيَّن أن المعين خطأ ولا عبرة بالظن البيِّن خطؤه، وعلى هذا فلا يُعتد بهذا الطلاق؛ لأنه تعلق بأجنبية.

الصورة الثانية: أن يُطلِّق طلاقاً معلَّقاً، ويُعلِّق الطلاق على نكاحه، فيقول: إن تزوجتُ فلانةً فهي طالق، فهي أثناء تَلَفُّظه بالطلاق أجنبية، وستصير زوجةً له، فعلَّق الطلاق بحالة إن صارت زوجةً له؛ فإن وقع معلقاً على مثل هذه الصورة وأشباهها، فلا يخلو تعليقه من حالتين: الحالة الأولى: أن يُعَلِّق الطلاق على النكاح بالتعميم، فيقول: كل امرأةٍ أتزوجها فهي طالق، وكل امرأةٍ أَعقد عليها فهي طالق، فالطلاق أثناء صدوره صدر من أجنبي، ولكنه معلقٌ على الزواج، فهل تطلق المرأة أو لا؟ سيأتي بيانه.

الحالة الثانية: أن يَخُص، وإذا خصَّص فإما أن يَخُصَّ بالزمان أو بالمكان أو بالأشخاص أو بالأجناس.

مثال التخصيص بالزمان: كل امرأةٍ أتزوجها هذه السنة، أو كل امرأةٍ أعقد عليها هذا الشهر أو هذا الأسبوع فهي طالق.

مثال التخصيص بالمكان: كل امرأةٍ أعقد عليها في المدينة فهي طالق.

مثال التخصيص بالأشخاص: كل امرأةٍ من فلانٍ إذا نكحتها فهي طالق، أو إذا تزوجتها فهي طالق.

مثال التخصيص بالقبائل: أن يقول: إذا نكحت امرأة من قبيلة كذا فهي طالق؛ فإذاً إما أن يُعمم وإما أن يُخصِّص، وإما أن يُقيِّد وإما أن يُطلق، ففي جميع هذه الصور، اختلف علماء السلف رحمهم الله في هذه المسألة.

فالقول الأول: أنّ من طلَّق الأجنبيةَ معلَّقاً لا يقع طلاقه ألبتة مطلقاً، سواءً كان طلاقاً معلقاً بزمان أو بمكان أو بأشخاص أو بقبائل، أو قُيِّدَ بهذا كله أو لم يُقَيَّد، وهذا القول احتج أصحابه بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب:٤٩]، وإلى ذلك أشار الإمام البخاري في صحيحه أن الطلاق مرتَّبٌ على النكاح، فإن قال: كل امرأةٍ أتزوجها، فالعبرة به حال القول، فقد طلَّق وهو أجنبي فلا يقع طلاقه، كما لو قال لامرأةٍ أجنبية: أنتِ طالق، وكما قال الأعزب: امرأتي طالق، وزوجتي طالق.

كذلك أيضاً استدلوا بالسنة من حديث عائشة رضي الله عنها: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق)، وقد حسن هذا الحديث غير واحدٍ من الأئمة والحفاظ رحمةُ الله عليهم، وهو حديث ثابت ويُحتَج به: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق)، فإن أسلوب الحصر والقصر، يدل على أن الطلاق يملكه من نكح، ومفهومه أنه لا يملكه من لا ينكح، ومفهوم الحصر مُعتبر، وكذلك أيضاً استدلوا بصريحٍ المنطوق في قوله عليه الصلاة والسلام -في الحديث الحسن في السنن- وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا طلاق فيما لا يملك، ولا عتق فيما لا يملك)، فنص عليه الصلاة والسلام على أن الطلاق لا يقع إذا كان المطلِّق طلَّق شيئاً لا يملكه وليس في عصمته.

وعليه فإنه لا يقع طلاقه مطلقاً؛ ولأننا لو قلنا بوقوع طلاقه لحرَّمنا ما أحل الله، وتوضيح ذلك: أن الرجل إذا قال: أيما امرأةٍ أتزوجها فهي طالق، فمعنى ذلك أنه سيبقى بدون امرأةٍ ويحرُم عليه الزواج، فما من امرأةٍ يعقد عليها إلا حَرُمت عليه بمجرد العقد، فلا يستطيع أن يتزوج أبداً، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، فهذا يؤدي إلى محظور ومخالفة الشرع.

ولذلك لما استأذن الصحابة -رضوان الله عليهم- رسول الله صلى الله عليه وسلم في التبتل نهاهم عن ذلك، وهذا يفضي إلى التبتل، بل هو أسوأ من التبتُّل، وعلى هذا قالوا: إنه لا يقع النكاح على هذا.

فلو قال قائل: لماذا تفسدون قوله لو قيّد النكاح؟ نقول: إذا صححت الصيغة لصحَّت مقيَّدةً ومطلقة، والكتاب والسنة صريحان بأن الطلاق لا يتبع ولا يقع إلا بامرأة، أما الذين قالوا بوقوعه فقد استدلوا بصيغة الشرط وأنه اشترط فيما بينه وبين الله، وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنهما أنه قال: (إن عمَّم فلا، وإن خصَّص فنعم) يعني: إذا عَمَّم في قوله: أيما امرأةٍ أنكحها وأتزوجها أو نحو ذلك؛ فلا يؤاخذ بذلك، وإن خصص فيقع ويؤاخذ بذلك احتجاجاً بالأثر، ولا قول لأحدٍ مع نص الكتاب والسنة.

ولذلك الذي يترجح هو القول بعدم وقوع الطلاق على الأجنبية مُعلَّقاً أو منَجَّزاً، عمَّم أو خصَّص، فلا بد في الطلاق من وجود المحل المعتبر، وهي المرأة التي ثبت أنها في عِصمة المطلق.

<<  <  ج:
ص:  >  >>