للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم بيع الربوي بجنسه ومعه من غير جنسه]

شرع المصنف رحمه الله في مسألة جديدة فقال: [ولا يباع ربوي بجنسه ومعه أو معهما من غير جنسهما].

وصورة هذه المسألة أن يقول قائل: أبيع البر بالبر صاعاً بصاع، وأستفضل لشيء آخر غير ربوي معهما، فهل يجوز ذلك أم لا؟ ومن هذا المقطع نبدأ في حديث ثانٍ من أحاديث الربا، وهذا الحديث يقوم على حديث فضالة بن عُبيد رضي الله عنه وأرضاه.

وأول الباب قام على حديث عبادة بن الصامت في الأصناف الستة، ثم بعد ذلك لما جئنا إلى الخالص والمشوب والني والمطبوخ فإن هذا قائم على حديث: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم.

قال: فلا إذن)، ثم دخلنا في حديث ثالث وهو حديث فضالة بن عُبيد رضي الله عنه.

وحديث فضالة: أنه في يوم خيبر اشترى قلادة، والقلادة عادة ما تكون مرصعة بالخرز؛ بالجواهر وبالأحجار الكريمة والمرجان واللؤلؤ والعقيق.

إلخ، وتارة تكون من ذهب خالص، فاشترى قلادة وفيها خرز، فلما عرضت القلادة اشتراها باثني عشر ديناراً، وفي بعض الروايات أنه حضر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُسأل عن قلادة اشتريت بتسعة دنانير، وفي رواية: بسبعة دنانير.

وهذا ليس بالاضطراب المؤثر، كما قرره الحافظ ابن حجر رحمه الله؛ لأن المعنى المستفاد من الحديث متفق عليه، وهو نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعها حتى تفصل وتميز، وهذا قد اتفقت عليه كل الروايات، وهذا من حيث الحكم، لكن كم كانت قيمة القلادة؟ حمل على أنها وقائع مختلفة، فهو رضي الله عنه ربما كانت له وقعة، وغيره ممن حضر سؤاله كانت له وقعة أخرى، فيكون الاختلاف باختلاف المسائل، وليس الاختلاف من باب الاضطراب في التحديد والحكم.

حتى ولو كان اختلافاً من باب الاضطراب في التحديد، فكما ذكر الحافظ ابن حجر أن الرواة وإن كانوا ثقات فإنه ينظر إلى أوثقهم، وتكون رواية غيره بالنسبة له شاذة، ويبقى موضع الشاهد من الحديث -وهو الحكم- معمولاً به.

إذاً: هذا الحديث وقع في أنه اشتراها باثني عشر ديناراً، فلما اشتراها رضي الله عنه فصلها فوجد فيها أكثر من اثني عشر ديناراً، والدنانير مضروبة من الذهب، فأصبح ذهباً بذهب مع وجود الزيادة، والسبب في هذا أنه لم يعلم قدر الذهب الموجود فيها من غير الذهب.

ومن هنا صار من بيع الربوي بجنسه، ومع أحدهما ما ليس منهما، أي: من الربوي ما ليس بربوي، ومع أحدهما ما ليس بربوي، فأصبح هذا الحديث أصلاً في هذه المسألة.

ولذلك نجد التوافق بين الفقهاء والمحدثين، فالمحدثون إذا ذكروا أحاديث الربا يبتدئون بحديث عبادة، ثم يذكرون ما يقرر معناه كحديث عمر رضي الله عنه في التقابض، وكذلك حديث أبي موسى الأشعري في التماثل والتقابض، ثم بعدما ينتهون من هذا يذكرون أحاديث الربا، كحديث فضالة بن عُبيد، وحديث النهي عن المزابنة.

وهذا كله تقرير للأصول، فلما جاء هذا الحديث جاءنا في مسألة الربوي بالربوي ومعه غير الربوي؛ لأن حديث عبادة ذكر الربوي بالربوي، وهنا ربوي بربوي ومعهما ما ليس منهما، ويلتحق بهذه المسألة أن يكون ربوياً بربوي ومعهما ما ليس بربوي.

وهذه المسألة على صور: الصورة الأولى: أن يعطي الربوي بالربوي ومع أحدهما ما ليس منهما من نفس النوع، ويحتمل أن يكون ربوياً، ويحتمل أن يكون غير ربوي، مثال ذلك: الأثمان والمطعومات.

ففي الأثمان يصرف الدرهمين بدرهم وتمر، فيقول له: عندي درهم اصرفه لي، فيقول: سأعطيك درهماً لقاء الدرهم، وليس عندي درهم آخر، فأعطيك بدلاً عنه تمراً، وفي بعض الأحيان درهم بدرهم وتمر، فيقول له: هذا الدرهم عندي من النوع الجيد بكم سوف تصرفه لي؟ فيقول: أصرفه لك بدرهم.

وذاك يقول: لا أرضى.

فيقول: سأعطيك درهماً وتمراً.

ففي هذه الحالة يكون الدرهم لقاء الدرهم تماثلاً، لكن وجود الزيادة هو من غير الفضة، فكأنه يقرر بهذا أن الزيادة سواءً كانت من الفضة أو من غير الفضة فإنها محرمة، فباعه إياها كذهب بذهب مع زيادة طعام، أو فضة بفضة مع زيادة طعام مشتركة في البيع، وهذا لا يجوز؛ لأن فضالة باع الاثني عشر درهماً بأكثر من اثني عشر درهماً، وجاء في الرواية الأخرى ما هو أقل مع وجود الخرز، فصار فضل الخرز زيادة على الأصل.

فلو قال قائل: أصرف الدرهم بالدرهم وأعطي تمراً؛ لأن التمر ليس بفضة؟ فنقول: مقصود الشرع المعنى وهو التعادل.

وانظروا إلى التجانس بين مسألتنا والتي قبلها، فإنه لما باع الخبز المطبوخ بالني، والدقيق بالحب؛ ففي الظاهر هناك تماثل، لكن صارت الزيادة في الصنعة، وهنا الزيادة من غير الربوي، أما الأول فإن الزيادة من الربوي؛ لقوله: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم.

قال: فلا إذن)، فهي زيادة من مادة الربوي، وهنا زيادة من أجنبي دخل عليهما.

فدرهم بدرهم وتمر، الدرهم بالدرهم تماثل، فلو قيل: إن ذلك جائز؛ لأنني أعطيت درهماً بدرهم، والتمر هذا من عندي، وأنا أريد أن أبيع الدرهم بدرهم وتمر، أليس الدرهم بالدرهم يكافئه ويعادله؟ فنقول: بلى، فيقول: إذاً التمر لا يضر؛ لأنه ليس بفضلة، ولا من نفس الربوي.

فنقول: سواءً كان من الربوي أو من غير الربوي فالحكم واحد، وهذا هو الذي دعا المصنف ليقول: (ولا يباع ربوي بربوي بجنسه ومعه أو معهما من غير جنسهما).

وعلى هذا يقال: لابد من التماثل، لكن هناك حالة تستثنى وهي: حالة الفصل، فلو قال له: عندي درهمان.

فقال: سأشتري منك درهماً بدرهم صرفاً، وأشتري منك الدرهم الثاني بصاع من تمر.

فيجوز؛ لأنه باع هذا على حدة، وباع هذا على حدة، واغتفر اجتماعهما في الصفقة الواحدة.

إذاً: يفرق بين كونهما مجتمعين وبين كونهما منفصلين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث فضالة نهى عن بيع القلادة حتى تفصل، فدل ذلك على أنها إذا فصلت جاز البيع، وذلك بأن يقول له: اثنا عشر ديناراً في مقابل وزنها، فمثلاً: لو جئنا إلى قلادة وزنها مائة غرام، ودنانير عشرة وزنها مائة غرام، فقال: سأشتري منك هذه القلادة عشرة غرامات بعشرة غرامات، فيصح البيع، ولا إشكال.

لكن لو كان مع القلادة خرز، فقال له: كم وزن الذهب الخالص؟ فقال: مائة غرام.

فقال: والخرز الموجود؟ فقال: عشرة غرامات.

فأصبح المجموع مائة وعشرة، فقال له: إذاً أشتري منك المائة غرام من الذهب بهذه المائة من الذهب، دنانير أو غيرها، وأشتري منك العشرة غرامات الخرز بجنيه، أو مثلاً بريالات موجودة، فلا بأس؛ لأنه فصل هذه البيعة عن هذه البيعة.

وخفف في ذلك جمع من العلماء رحمهم الله، سواءً كان من جنس الربوي أو كان من غيره، قالوا: لأن البيعتين إذا فصلهما عن بعض جاز، فلا يجوز بيع الربوي بربوي ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسهما كدرهمين بدرهم وتمر.

وفي عصرنا الحاضر نمثل بأمثلة على مسألة الربوي بربوي: عندما تأتي إلى الرجل وتريد أن تصرف عنده، فيقول لك: لا أصرف لك حتى تشتري، فقال بعض العلماء: تدخل في مسألة بيع الربوي بالربوي؛ لأنه إذا ألزمك أن تشتري -مثلاً- كيلو تمر وقيمته ريال، وقال لك: سأصرف لك الخمسمائة ريال بشرط أن تشتري هذا التمر، فإن قيمة الكيلو التمر في الأصل نصف ريال، وهو سيربح نصف ريال؛ فكأنه إذا صرف لك عشرة ريالات بتسعة ريالات -كأنه صرف لك تسعة ونصف ريال -التي هي حقيقة قيمة التمر- بعشرة كاملة، لكن لو جئت باختيارك وطلبت ذلك وابتغيته فقالوا: إن الأمر في ذلك أيسر.

ومن هنا إذا جاء يعرض على الإنسان مناديل تتمة لصرفه أو كذا، قالوا: يتورع، حتى لا يكون فيه شبهة الفضل الذي سيربحه من قيمة المناديل، فيكون قد صرف العد بالعد مع فضل وزيادة.

وهذه المسألة حتى تكون الصورة أقرب ليست من جلية الربا، إنما هي مما يسمونه: بيوع الذرائع، وهي في ظاهرها صحيحة؛ لكنها في الحقيقة تئول إلى الربا؛ كبيع العينة ونحوه.

ولذلك يقولون: هذا من بيوع الذرائع الربوية، فهناك الربا المحض، وهناك ما هو وسيلة وذريعة إلى الربا، والشريعة تحرم المقاصد المحرمة ووسائلها المفضية إليها، ولذلك قُررت القاعدة أن (الوسائل لها أحكام مقاصدها)، فإن كانت الوسيلة إلى حرام فهي حرام، ثم تتفاضل الوسائل في الحرمة وفي الجواز بتفاضل مقاصدها، فما كان وسيلة إلى حرام أعظم فإنها محرمة بحرمة الحرام الأعظم؛ وعليه فما كان وسيلة إلى الربا فإنه محرم، ولا يجوز أن يتعاطاه، كما لا يجوز أن يتعاطى الربا.

وقوله رحمه الله: (ولا يباع ربوي) سواءً كان من الأثمان، أو كان من المطعومات، وسواءً كان من المنصوص عليه، أو كان من الملحق بالمنصوص عليه، وقوله: (بجنسه) أي: من جنسه مع اتحاد النوع، لكن لو كان الربوي بربوي مع اختلاف الجنس، فيجوز التفاضل ولا إشكال فيه.

وقوله: (ومعه) كمد ودرهمين بمدين ودرهم، (أو معهما) مع هذا وهذا من غير جنسهما كدرهمين في مقابل مد ودرهم، فإن الدرهم في مقابل الدرهم، والمد في مقابل الدرهم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>