[المرض]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: ويعذر بترك جمعة أو جماعة مريض].
قوله: [يعذر بترك] أي: بالتخلف.
فالجمعة والجماعة لا تجب على المريض الذي لا يستطيع شهودها وحضورها، والسبب في ذلك أن تكاليف الشرع مبنية على التيسير على الناس، لا على التعسير عليهم.
وقد بعث الله نبيه رحمة للعالمين، ولم يبعثه -صلوات الله وسلامه عليه- بما فيه حرج ومشقة لا يطيقها الناس، والمرض فيه مشقة وحرج.
ولذلك لما مرِض عليه الصلاة والسلام لم يشهد الجماعة، كما في الصحيحين أنه قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، فتخلف عليه الصلاة والسلام عن شهود الجماعة، فأخذ العلماء من هذا دليلاً أن من كان مريضاً يُعذر بترك الجماعة.
والمرض له أحوال، فتارةً يمتنع الإنسان بالكلية عن شهود الجماعة، كأن يكون مشلولاً أو به ألم لا يطيق معه الخروج من بيته، فهذا يُعذر، ويعتبر وجود مثل هذا الأذى رخصة له في ترك الجمعة والجماعة.
وتارة يكون مرضه يستطيع معه الخروج، ولكن يتضرر بالخروج؛ فتارة يزداد عليه المرض، كأن يكون مصاباً بالزكام، فلو خرج في شدة البرد زاد عليه زكامه، ولربما ساءت صحته، واشتدت عليه علّته، وتارةً يستطيع الخروج ولا يزداد المرض، ولكن يجد الأذى والمشقة في النقلة، كأن يكون مرضه في قدميه، فلو سار عليهما أو حمل بين اثنين فإنه يتضرر بالمشي.
ففي الحالة الأولى اختار بعض العلماء والمحققين أنه إذا خاف زيادة المرض، وغلب على ظنه أن المرض يزداد والعلة تشتد فإنه يترك شهود الجماعة، فلو أنه أصابه الزكام، وغلب على ظنه أنه لو خرج لهذه الصلاة تشتد عليه العلة ويعظم عليه البلاء فإنه يتخلف.
وهكذا لو كان خروجه فيه المشقة والحرج والأذية، أما لو كانت به مشقة يستطيع أن يتحملها فعليه أن يخرج، ولذلك يقول العلماء: المشقة مشقتان: مشقة مقدور عليها، ومشقة غير مقدور عليها، فالمشقة غير المقدور عليها لا يكلف معها إجماعاً وإذا كان الإنسان لا يطيقها، ولا يمكنه أن يأتي بالشيء مع وجودها، فلو أن إنساناً أصابه مرض لا يستطيع معه القيام ألبتة -كالشلل- فإنه لا يكلف إجماعاً بالقيام.
والمشقة المقدور عليها تنقسم إلى قسمين: الأول: أن تكون مقدوراً عليها وفيها حرج وضيق وعناء.
الثاني: أن تكون مقدوراً عليها، ولا يلحق الإنسان بها حرج ولا ضيق.
فمثال الأول -إذا أصابته المشقة وأجحفت به- أن يكون في سفر وتشتد عليه المخمصة، فلو كان في سفر وهو صائم، فإنه في حال السفر يمكنه أن يصبر على الصيام، ولكن تصل نفسه إلى الضيق والحرج، فهذا يرخص له في الفطر.
ومثال الثاني: مشقة الخروج لصلاة الفجر، فإنه يترك النوم ويخرج، ومشقة الوضوء في الشتاء، فإنه يكلف بها، فأصبحت المشقة ثلاثة أقسام: الأول: ما لا يُقدر عليه، كالمخمصة التي تفضي به إلى الموت.
فهذه يسقط فيها التكليف، وينتقل إلى الرخصة بأكل الميتة.
الثاني: مشقة مقدور عليها مع الحرج، كالصوم في السفر، فيخير بين الفعل والترك، والرخصة له أن يترك، فالإنسان في السفر يخير بين أن يفطر ويصوم.
الثالث: مشقة مقدور عليها بدون حرج، فيلزم فيها بالتكليف، ولذلك قال العلماء: سميت التكاليف تكاليفاً لوجود الكلفة والمشقة فيها.
وبناءً على ذلك فالمريض الذي إذا خرج من بيته أجحف به الخروج وحصل له العناء والضررله أن يترك شهود الجماعة، ولا حرج عليه في ذلك.
أما لو كان يطيق -ولو مع يسير المشقة- فإنه يشهد، فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم نفاقه، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف).
فهذا يدل على حرصهم رضي الله عنهم على شهود الجماعة، ويدل على تأكدها ولزومها.