للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[النصح لطلاب العلم]

السؤال

أنا شابٌ أحببت طلب العلم وأرجو من الله أن يوفقني فيه، ولكن مشكلتي هي أنني أحياناً لا أحب أن أنصح إخواني في طلب العلم، بل ربما أعلم أن هناك شاباً يحب طلب العلم فلا أنصحه ببعض ما يحتاجه المبتدئون، وكل هذا خوفاً أن يكون أفضل مني، أو يتقرب إلى الله أكثر مني، وأنا أعلم أن هذا ليس من أخلاق طالب العلم؟ فأرشدوني أثابكم الله.

الجواب

هذا بلاء عظيم، والشخص إذا حُرم إفادة الغير بالعلم فليعلم أن بركة علمه قد محقت، فالعلم ما قام إلا على نفع المسكين؛ لأن العلم تبليغ رسالة وأداء أمانة، فإذا أراد الله بعبده السعادة والخير بعد الهداية شرح صدره للعلم، هذه أول نفحات الله عز وجل بعد الهداية، أن يشرح صدره للعلم.

ثانياً: إذا وفقه الله لمحبة العلم والرغبة فيه يسر له من يوثق بدينه وأمانته من أجل أن يتعلم، فيكون علمه صواباً وحقاً فلا يذهب يجثو على ركبتيه عند أئمة الضلال، الذين لا علم عندهم أو عند المتعالمين أو نحو ذلك.

ثالثاً: إذا وفقه الله عز وجل لشهود مجالس العلم، وضبط أقوالهم انشرح صدره لهذا العلم، وأحب ما يقولون وما يعملون، فإذا وفق لهذه المرتبة حمل هم العمل بما علم، فيفتح الله عز وجل عليه باب العمل، فلا يتعلم كلمة في مجلس إلا طبقها، ولا سمع نصيحة إلا التزمها وانتقل إلى أهله وولده وهو كاملٌ بتكميل الله عز وجل له في نفسه، فإذا أراد الله عز وجل أن يسعده ويوفقه ويجعل علمه نعمة عليه في الدنيا والآخرة، رزقه نشر هذا العلم.

إذاً: علمٌ ثم عملٌ ثم تعليم، وهذا هو الذي عناه الله عز وجل بقوله: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:١ - ٣]، فذكر أنهم هدوا الغير لما اهتدوا، فهم مهتدون في أنفسهم هداة لغيرهم رحمة من الله عز وجل، رحمهم الله في أنفسهم ثم رحم بهم خلقه وعبيده، فإذا كان الإنسان أنانياً والعياذ بالله، ولا يحب أن ينشر الخير لإخوانه، فهذا بلاء.

وأوصيك بأمور: إما أن يكون هذا البلاء جاء بسبب ذنب، فالإنسان قد يلتزم ويهتدي وعنده من أدران الجاهلية ما لم يتطهر منه، فعلى العبد أن يسأل الله أن يطهر قلبه، قال الله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة:٤١]، فقد تكون الهداية كاملة وقد تكون ناقصة.

والهداية الناقصة: أن يلتزم ولكن عنده أدران وظلمات في قلبه من الجاهلية من الغل والحسد والبغضاء وسوء الظن بالمسلمين ومحبة تتبع عثرات الناس، تجده شاباً ملتزماً، لكنه مولع بأذية الناس، نسأل الله السلامة والعافية، فهو التزم بذكر القبر والنار، لكنها لم تهذب سلوكه ولم تقوم طريقه ومنهجه، فينطلق والعياذ بالله بأدران الجاهلية، ولذلك تعجب حين ترى إنساناً صالحاً ديناً، ثم ترى منه أذية الناس والإضرار بهم؛ لأنه أسلم قالباً ولم يسلم قلباً.

ومن أهم ما ينبغي على الإنسان أن يبدأ بقلبه وسماع العقيدة بحق وصدق، لا بكذب وتنميق وتضخيم وتحت غرور أنه عبدٌ صالح، وأنه قد اتبع الصحابة رضوان الله عليهم، كان الرجل منهم يخاف النفاق حتى حين تقبض روحه، من شدة الخوف والوجل والإحسان في العمل، فالإنسان عليه أن يهذب سلوكه، فقد يكون والعياذ بالله ملتزماً ولكن بقيت عنده هذه الآفة، وهذه يعرفها من يعرفها، فمن كان مبتلى بهذا البلاء فعليه أن يسأل نفسه: ماذا كان عنده قبل التزامه وهدايته؟ فإن كان يعرف لنفسه هذا، فليعلم أنه أسلم ولم يسلم قلبه للإسلام تاماً كاملاً.

ثانياً: قد يكون بعيداً عن هذا وليس عنده آفات، قد يكون عبداً صالحاً مستقيماً ولكن ابتلي بهذا البلاء من الله، قد يبتلى بسبب عقوق والديه أو قطيعة رحمه أو همزه للناس، أو تتبع عثرة الدعاة، أو الكلام في أهل الخير أو الصلاح، فابتلاه الله بفتنة، وخذها قاعدة: أن فتن الدين لا تأتي إلا بسبب ما يكون بين العبد وربه في القلب: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:١١].

يكون الإنسان كأحسن ما تراه ملتزماً، ثم فجأة يتتبع عثرات العلماء والدعاة الأموات أو الأحياء أو ينتقصهم أو ينظر إليهم نظرات، فينكسه الله عز وجل بسبب ذلك: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:٥]، كان مهتدياً صالحاً كما قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، ثم أصبح والعياذ بالله خارجاً عن قوله، فاغتر بنفسه، وتعالى على عباد الله أو احتقر خلق الله عز وجل.

فهذا موسى عليه السلام، لما قال: أنا أعلم، عتب الله عليه من فوق سبع سماوات وهو كليم الله، ولكن قال الله له: إن بمجمع البحرين من هو أعلم منك، وهو نبي يقول الله له: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:١٤٤]، ويقول الله في تشريفه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:١٦٤]، لما جاءت حاجة معينة حصل فيها ما حصل؛ عتب الله عليه من فوق سبع سماوات، فكيف بمن يركب على ظهور الناس أو تحصل منه زلة، فلا تأمن من الله عز وجل أن يبتليك، فهذه ابتلاءات تأتي في القلوب بسبب الذنوب، ومن أعظم ما يفتح على العبد الملتزم الهادي الصالح من البلاء بعد حق الله عز وجل حقوق العباد، ولذلك فاحذر وأنت في طلب العلم أن تنتقص أحداً أو تتكلم في أحد أو تذم أحداً، أو تحمل في قلبك غلاً على أحد من أولياء الله عز وجل.

عليك أن تنتبه وتحذر من ذلك أتم الحذر؛ لأن هذه الفتن التي يحرم بها الإنسان بركة العلم وقبول العلم والانتفاع بالعلم كثيرٌ منها بسبب الظلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه ظلمات، فالقلب لا يمكن أن يستنير، والنور محله القلب، فاتقوا الله يجعل لكم فرقاناً فالنور الذي في القلوب يطمس، وإذا كان الإنسان لم يهذب نفسه سلبه الله عز وجل البركة في عمره وقوله وعمله، فالحذر من الذنوب.

فلذلك أدعوك: إذا كان هذا الأمر قد جد عليك وطرأ، أن تتفقد نفسك ماذا قلت، وماذا عملت، فلعل مسلماً ظلمته أو آذيته فحرمت الخير بسبب أذيته، فتسأله أن يسامحك وتتحلل من مظلمته وتبتعد عن إساءته.

وأوصيك أخي بأمر لا أظن أن هناك فرجاً ومخرجاً أعظم منه، وهو دعاء الله سبحانه وتعالى، بأن تشتكي إلى الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وأن تتوكل على الحي الذي لا يموت حتى ينزع ما في قلبك، فإن هذا بلاء عظيم، إن لم يتداركك الله برحمته؛ فإنه شيء يخشى منه عليك ألا تبقى لك بركة في علمك.

إذا أحد يريد أن يتعلم هذا العلم دون أن يوطن نفسه على بذله للناس وللخير بالوجه الذي يستطيع، لا يكون إنساناً أنانياً طالب علم ولا معلماً، فلا أنت حينما تعلم شيئاً تعطيه لأخيك وتدله، ولا طالب علم أيضاً من حيث إنك أناني تريد الشيء لك وحدك أو نحو هذا، فهذا أمر عليك أن تحذره قدر المستطاع، وتطلب العلم أنى وجدته، وتحرص على نفع المسلمين.

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>