[استحباب بعض العلماء لبعض صفات الإمام]
قال رحمه الله تعالى: [وحرٌ وحاضر ومقيم وبصير ومختون ومن له ثياب أولى من ضدهم].
قوله: [وحر].
هذه من باب الأفضلية، فالحر يُقدم على العبد والرقيق؛ لأن الرِّق يكون بسبب الكفر، كما هو معلوم أنهم يؤخذون في الجهاد ويُضرب عليهم الرق، فلِمكان النقص الموجود في الرقيق يُقدَّم عليه الحر، فهو أولى، ولكن ليس هناك نص، بل لو كان العبد حافظاً لكتاب الله عز وجل، أو عالماً بالسنة فإنه يُقدم ولو كان مولىً أو عبداً، خلافاً لمن قال: إنه لا يؤُم العبد، وهذا قولٌ ضعيف، والصحيح أن القرآن يُقدِّمه وعلمه يقدمه ولذلك لما سُئِل بعض السلف رحمة الله عليهم عن إمامة العبد قال: سبحان الله! ومن لا يصلّ وراء عكرمة؟ ثم ذكر غيره ممن كان من الموالي كـ نافع وغيره، فمن الذي لا يستطيع أن يصلي وراء هؤلاء الأئمة الأجلاء، فالإسلام وإن كان قد ضرب الرِّق عليهم فإن هذا لا يعني عدم إعطائهم حقوقهم إذا كانوا أهلاً لهذه الإمامة بحفظهم لكتاب الله عز وجل وعلمهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وفقههم في الدين، فإنهم يُقدمون ولو كان فيهم شائبة الرق.
وقوله: [وحاضر].
قالوا: يُقدم الحاضر على البادي.
والسبب في ذلك غلبة العلم في الحاضر أكثر من البادي، ولكن لو كان من بالبادية أعلم وأفقه فإنَّه يقدم، والصحيح أنه لا تُمنع إمامة البادي إذا كان عالماً أو فقيهاً أو عارفاً بالسنة؛ لأن العبرة في الإمامة بالأوصاف التي ذكرناها، وأما ما ذكره العلماء رحمةُ الله عليهم من هذه الأوصاف فهذه كلها أمورٌ اجتهادية، والنص الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم سلماً، فإن كانوا في السلم سواء فأكبرهم سناً) يدل على التفضيل بهذه الأمور، وأما ما عداها فإنه لم يرد به نص مما اجتهد به العلماء رحمهم الله، كالعبد والحاضر ونحو ذلك، فكل هذا مما لا نص فيه، بل قد تجد غير الحاضر أكثر ديانةً واستقامةً، وأبعد عن المعاصي والفواحش من غيره، وأكثر تمسكاً بالدين، وقد يكون على فطرته التي فيها استقامة في الأخلاق، وكمال في العقل، فالعبرة بالديانة والاستقامة، بغض النظر عن كون هذا حاضراً أو غير حاضر، فهذا كله لا تأثير له مع وجود الدين والاستقامة والعلم بأحكام الصلاة.
وقوله: [ومقيم].
قالوا: يُقدم المقيم على المسافر، والسبب في ذلك أن المسافر سيقصر الصلاة، وبناءً على ذلك قالوا: ربما اختلجت على الناس صلاتهم؛ لأنه سيصلي ركعتين في الرباعية، فإذا تقدّم بالناس وصلى بهم فإنهم يظنون أنه وَهِم فربما سبّحوا له، وربما سلّم بعضهم معه؛ لأن الناس بعضهم فيه غفلة فيدخل في الصلاة ولا يعي عدد ما صلّى، فإذا قال الإمام: (السلام عليكم) ظن أنه على الكمال فسلّم معه، ولذلك قالوا: يُقدَّم المقيم على المسافر.
وكل ذلك من باب الاجتهاد، ولكن المسافر إذا كان على عِلمٍ، وكان حافظاً لكتاب الله عز وجل، وأحب القوم أن يقدموه فإنه يقدم.
وقوله: [وبصير].
قالوا: البصير يقدم على الأعمى.
وهذا لا نص فيه، وإنما هو اجتهاد من العلماء رحمة الله عليهم، ولكن قالوا: إن وُجِد من هو أعمى ومن هو بصير، فإن البصير ربما يكون أرفق بالناس.
ولكن الحقيقة أن العبرة بالديانة والاستقامة، وأما البصير والأعمى فهما على حدٍ سواء؛ فإنه لا يُفضَّل بينهما إلا بنص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكم من أَعمى قد كُف بصره ولكن استنارت بصيرته، والعمى عمى القلب، ولذلك إذا جمع الله للإنسان الفقه في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فهو مقدَّم ولو كان كفيف البصر.
وقوله: [ومختونٌ].
قالوا: يُقدم على الأقلف وهو غير المختون؛ لأن غير المختون تنحبس النجاسة في الموضع المعروف، ولذلك يكون المختون أكمل طهارة من غير المختون، وهذا ذكره العلماء رحمة الله عليهم من باب الاحتياط للصلاة، وعندهم كلام في إمامة الأقلف، ولكن ليس هناك نص على بطلانها وعدم صحتها، والصحيح أنه يجوز أن يُصلي بالناس، ومثاله: أن يسلم رجلان، ثم أحدهما اختتن، وكلاهما حفظ القرآن، أو حفظا مع بعضهما من كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فكان علمهم على حدٍ سواء، ولكن أحدهم اختتن والثاني لم يختتن، فقالوا: نقدِّم المختون.
وفي مثل هذا يستقيم، فيُقدم المختون على غير المختون؛ لأن هذا تقديم من جهة الدين، والسبب في ذلك أنه التزم بشرع الله أكثر من غير المختون؛ فإنه بادر واختتن، ولذلك يكون هنا التقديم من جهة الدين، ويعتبر زيادة في تقوى الله عز وجل، والتزاماً بحدود الله سبحانه وتعالى.
وقوله: [ومن له ثياب].
لأن شرط صحة الصلاة ستر العورة، فإذا وُجِد العاري وغير العاري فإن الذي يؤم هو الذي قد ستر عورته، ولا يتقدم العاري؛ لأنه إذا تقدم انكشف، وتكون إمامته سبباً في انكشافه ولذلك يتقدم غير العاري على العاري.
وقوله: [أولى من ضدهم].
ولا يُشترط أن يكون العري كاملاً، فلو كان أحدهم عنده ثوبٌ كامل، وآخر عنده ثوب يستر العورة، والثاني عنده ثوب إلى نصف العورة فإننا نقدم من كمُل ستر عورته على من هو دونه.