[لا ضمان على الحجام إذا عرف حذقه]
وقوله: [ولا حجام].
الحجامة هي: إخراج للدم الفاسد من البدن بالمص، ولها مقامعها المعروفة وطريقتها المشهورة، وتكون متعلقة بالأوعية الدموية، وأما الفصد، فإنه يكون للعروق، وكلاهما ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرعيته، ودل الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام باعتباره، كما في الحجامة أنه احتجم وأمر بالحجامة (إذا اشتد الحر فاحتجموا، لا يتبيغ بكم الدم فيقتلكم) وكذلك أيضاً الفصد، ثبت عنه في الصحيح أنه أرسل إلى أبي بن كعب رضي الله عنه طبيباً، فقطع منه عرقاً ثم كواه عليه، وهذا يدل على مشروعية الفصد.
فالحجامة صنعة لا ينبغي لأحد أن يقوم بها إلا إذا كان من أهلها، وهي تحتاج إلى معرفة بالطب، وليس كل من أخذ محاجماً فهو حجام، وقد تدخل على الإنسان ضرراً لا يعلمه إلا الله عز وجل! فهي سلاح ذو حدين، إذ أن هناك مواضع في الجسد لو حجمت أهلكت الإنسان، وهناك مواضع في البدن لو حجمت استقامت صحته، وهناك أوقات لا تحسن فيها الحجامة ولا تصلح، وهناك أوقات تصلح فيها الحجامة، فهي علم مستقل.
وأطباء المسلمين المتقدمون ألفوا في الحجامة الكتب، فهي ليست صنعة لكل من هب ودب؛ لأنها تتعرض لأخطر الأشياء بعد الدين وهو الجسد؛ لأن أجساد الناس وأرواحهم متوقفة -بعد الله عز وجل- على الطب، ولذلك كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول في الطب: إنه ثلث العلم، وكان يقول: ضيعوا ثلث العلم.
وكان يقول رحمه الله قولته المشهورة: لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنبل من الطب.
فالطب ليس بالسهل، فأرواح الناس وأجسادهم أمانة عند الحجام، فهناك مواضع لو حجمت أذهبت ذاكرة الإنسان، وأصبح -والعياذ بالله- كثير النسيان، وهناك مواضع لو حجمت لربما أصابته بالشلل والعياذ بالله، فهي خطيرة وليست بالسهلة.
فإذاً: لا يجوز لأحد أن يتعاطى الحجامة إلا إذا كان عالماً بالمواضع التي تحجم وكيفية الحجامة، فلابد أولاً من العلم بالمواضع؛ لأنه قد يعرف كيف يحجم، ويعرف لون الدم الفاسد من الصالح، ويعرف زمان الإمكان بسحب المحاجم وتركها، وطريقة التشريط، وطريقة المص، قد يعرف هذا، لكن لا يعرف المواضع، وهذا أكثر ما يقع فيه الجهل، فقد تجد حجاماً يحسن الشرط ويحسن المص، لكن ما يحسن معرفة المواضع، ولذلك ينبغي أن يكون عالماً بهذه المهمة على الوجه المطلوب.
ثانياً: إذا كان عالماً يجب عليه شرعاً أن يؤدي العمل وفق المتبع عند أهل الخبرة؛ لأنه قد يكون عالماً ولكن لا يحسن التطبيق، وقد يكون عالماً ولا يتم التطبيق؛ أي: أنه متساهل، فإذا كان جاهلاً بالصنعة ضمن، وإذا كان عالماً بالصنعة جاهلاً بتطبيقها ضمن، وإذا قام بالصنعة وكان عالماً بتطبيقها ولكنه لم يتم العمل على الوجه المتبع عند أهل الخبرة ضمن.
إذاً: كلها مداخل للضمان؛ لكن إذا أدى الحجامة على الوجه المعتبر، وعرف الموضع الذي يحجم، وأتم الحجامة على الصورة والصفة المعتبرة، فلا ضمان عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في سنن أبي داود وغيره في الحديث الصحيح أنه قال: (من تطبب ولم يعرف منه طب فهو ضامن) (من تطبب): تفعل، أي: تكلف، مثل: تحلم وتصبر إذا لم يكن من أهل الحلم لكنه تكلف الحلم، وكذلك أيضاً تصبر، هذه الصيغة تدل على أنه تكلف الطب وليس من أهل الطب.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (من تطبب) عام، ولذلك قرر الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله برحمته الواسعة في كتابه النفيس العظيم (الطب النبوي) وهو منتزع من (زاد المعاد في هدي خير العباد) قرر أن قوله: (من تطبب) عام، وأن الطب بجميع فروعه يدخل تحت قوله: (من تطبب)، وأنه من جوامع كلمه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فكل من يقوم بأي مهمة طبية لا يعرفها، أو يعرفها ولكن ليس تمام المعرفة المعتبرة التي تؤهله بشهادة أهل الخبرة للقيام بذلك الشيء الذي قام به فإنه متطبب.
فقال: يمكن أن يكون المتطبب حجاماً.
لأنه إذا تعاطى ذلك فإنه قد دخل في الطب، صحيح أن الطب عام، ولكن من الطب الحجامة؛ ولذلك يعتبر متطبباً إذا تعاطى الحجامة ولا يعرفها، وكذلك أيضاً الفصاد، قال: إذا تعاطى الفصد ولا يعرفه فقد تطبب، وكذلك الجراح إذا تعاطى الجراحة وهو لا يعرفها فقد تطبب.
وهكذا بقية الأطباء، حتى علم الأعشاب، لو قال -مثلاً-: خذ العشب الفلاني، أو ضع العشب الفلاني، أو افعل بالعشب الفلاني، أو العشبة الفلانية علاج لكذا ودواء لكذا.
فإنه تطبب إذا لم يكن على بينة وعلم.
إذاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (من تطبب) يدل على تضمين الحجام؛ لأن الحجامة من الطب، وعلاج يتادوى به، ومن مجالات الطب، فيدخل في عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (من تطبب).
لا ضمان على الحجام إذا حجم بالصفة والطريقة المعتبرة.
ويشترط في الحجام ما يأتي: أولاً: أن يكون عالماً بالحجامة.
وثانياً: أن يشهد له أهل الخبرة أنه أهل للقيام بهذا.
وثالثاً: أن يؤدي هذه الحجامة بالطريقة المتبعة عند أهل الخبرة.
فلو أنه كان عالماً، وكان مستطيعاً للتطبيق، وطبق ما علم في حدود أهل الخبرة، ولكنه قام بالعمل بدون إذن صاحبه، فجاء إلى شخص وحجمه بدون إذنه، فهذا يضمن؛ لأن الإذن هو الذي فيه التوكيل الذي يسقط الضمان، فأصبح هناك أربعة شروط لابد من توفرها: العلم بالحجامة، والقدرة على تطبيق ذلك العلم على الوجه الصحيح، وأن يقوم بالمهمة وفق الأصول المتبعة عند أهل العلم بالحجامة، وأن يأذن الشخص المريض أو وليه بفعل الحجامة، وهذا الشروط الأربعة على التفصيل الآتي: قلنا: أن يكون عالماً.
فإذا كان جاهلاً ليس من حقه شرعاً أن يعرض أرواح المسلمين وأجسادهم للتلف، فيضمن.
ثانياً: أن يكون قادراً على التطبيق.
الآن ربما تقرأ كتاباً في الحجامة وتتصور الحجامة، وربما تقرأ كتاباً في الجراحة الطبية وتتصورها، لكن لو وقفت أمام الدماء والعروق والأشلاء والقطع لما أحسنت التصرف؛ لأن التطبيق شيء والعلم شيء آخر، ولذلك لابد مع العلم من القدرة على التطبيق، وأن يكون هذا التطبيق الذي طبقه موافقاً للأصول المتبعة عند أهل الخبرة؛ ولذلك نستطيع أن نضمِّن أعرف الناس بالطب إذا خرج عن السبيل المتبع عند أهل الخبرة، فعلمه وقدرته على التطبيق محكومة بالضوابط والأصول المتبعة عند أهل الخبرة، فإذا خرج عنها صار متحملاً للمسئولية، وخارجاً عن السنن الذي جعله الله علاجاً ودواءً للأجساد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تداووا عباد الله؛ فإن الله لم يجعل داءً إلا وجعل له شفاء ودواء) فقال: (جعل له شفاء ودواء) فهذا الجعل نعرفه عن طريق أهل الخبرة والمعرفة، فلما جاء وخرج عن حدود أهل الخبرة وتطبيقاتهم فقد خرج عن السنن الذي جعله الله سبحانه وتعالى علاجاً، فصار مخاطرة ومجازفة واجتهاداً يتحمل مسئوليته وتبعته.
مثال: لو أن المريض يحجم في نقرة الرأس، فجاء وقال: أنا أفضل أن تكون في النقرة اليمنى ولا تكون في الوسط.
فانحرف يميناً أو شمالاً، أولاً: هو يعرف كيف يحجم، أي: عنده علم، ثانياً: عنده قدرة على التطبيق، ثالثاً: لم يطبق وفق أصول أهل الخبرة؛ لأن أصول الخبرة تستلزم أن يضع في هذا الموضع.
من أمثلتها أيضاً: أن يحدد الموضع ويحدد المكان للحجامة، فيقوم بالحجامة، ولكن المتبع عند أهل الخبرة أنه يعالج الجرح بعد انتهاء الحجامة وينظفه قبل الحجامة؛ لأنه إذا جاء يجرح ينبغي أن يكون قد قام بتنظيف مكان الجرح، فإذا لم يحتط وعاجل بجرحه قبل تنظيف المكان فتسمم المكان، أو حدث ضرر بسبب هذا التفريط والخروج عن الأصل المتبع عند أهل الخبرة، وهو أنه لا يمكن أن يقوم بحجم موضع إلا بعد تنظيفه وتهيئته للحجامة، فنقول: هذا خروج؛ مع أنه عالم وقادر على التطبيق، وعنده معرفة، ولكن خرج عن السنن المتبع عند أهل الخبرة، وهذه ضوابط مهمة.
الأمر الرابع: أن يوجد الإذن، فإذا وجد الإذن وأذنت له أن يحجم لي فإنني في هذه الحالة وكلته لعلاج نفسي، فكأني أنا الذي أعالج نفسي؛ ولأني إذا أذنت تحملت مسئولية الآلام، ورضيت بالضرر المترتب على وجود الألم والمشقة المترتبة عليه، فإذا لم آذن لم أرض لنفسي هذا الضرر، فعند إقدامه عليه بدون وجود إذن يضمن.
إذاً: لو كان المريض مغمى عليه، أو كان صبياً صغيراً لا يحسن النظر في مصلحة نفسه، يقوم وليه مقامه، فللولي أن يقوم مقامه ويأذن، فإذا جاء وليه وقال له: احجم هذا الصبي.
وكان أبوه أو عمه وهو قائم على أمره حينئذ يعتبر إذناً موجباً لسقوط الضمان.