[كتاب القاضي إلى القاضي]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب كتاب القاضي إلى القاضي].
كتاب القاضي إلى القاضي، ثبتت السنة به كما في حديث ضحاك بن سفيان رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه: (أن ورث امرأة أشيم من ميراثه)، فهذا أصل عند العلماء رحمهم الله في صحة كتاب القاضي إلى القاضي، وبعضهم يحتج بكتاب سليمان، وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، ولكن هذا أعم من موضع النزاع، لكن هذا الحديث أصل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كتب بما ثبت عنده؛ لأن المرأة ادعت الميراث من زوجها، وثبت عنده فكتب إلى قاضيه، الذي هو الضحاك بن سفيان رضي الله عنه وأرضاه، وكان كما في رواية أبي داود والحديث صححه الترمذي وغيره: أن يورث امرأة أشيم الضبابي رضي الله عنها وعنه من ميراثه، فحكم بأن لها ميراثاً وأنه ينفذ بالتوريث لإعطائها ذلك الحق.
فهذا مما يكتب به القاضي إلى القاضي، أو أن يكتب له بالشهود أنهم شهدوا بالقضية ويذكرهم ببينة دون عدالة أو جرح فيكتب إليه حتى ينظر في عدالته وجرحه، وإما أن يكتب له بعد شهادة الشهود وتزكيتهم مثبتاً شهادتهم ويوكل إليه النظر بالحكم، وإما أن يكتب إليه بعد شهادة الشهود وثبوت تزكيتهم والحكم عليهم لكي ينفذ حكمه، وهذه كلها أحوال على حسب الحاجة يكتب فيها.
[يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في كل حق حتى القذف].
والأئمة الأربعة رحمهم الله كلهم على العمل بكتاب القاضي إلى القاضي، وأنها سنة متبعة معروفة عند العلماء رحمهم الله، وأنه لا بأس بذلك ولا حرج.
[لا في حدود الله]، الحدود يتولى النظر فيها بنفسه ولا يعتمد كتاب قاضٍ إليه صيانة للدماء وعظم أمرها؛ ولذلك لا يحكم فيها بكتاب القاضي، ولا ينفذ فيها كتاب القاضي إلى القاضي حتى يقرأ القاضي الثاني ويطلع ويقوم على القضية بنفسه، هذا فقط في الحدود، وهذا مما يستثنى في حكم القاضي على القاضي، إلا القذف؛ لوجود حق المخلوق والخالق، فإنه من الحقوق المشتركة، وقد تقدم معنا في باب القضاء.
[كحد الزنا ونحوه].
والقتل كذلك، لا يعمل بكتاب القاضي إلى القاضي، وهذا لعظم أمر الحدود.
[ويقبل فيما حكم به لينفذه].
ويقبل فيما حكم به لينفذه، الخصم في مكة فكتب القاضي من المدينة إلى مكة أنه ثبت عندي بشهادة الشهود فلان وفلان أن فلاناً له في ذمة فلان كذا وكذا ويحرر له القضية ثم يختم الكتاب ويقرؤه على الشاهدين ثم يقوم الشاهدان بالذهاب بالكتاب إلى القاضي، فينفذ ما فيه.
[وإن كانا في بلد واحد].
بعض الأحيان يكون هو القاضي الكبير والآخر تحت ولايته، قالوا: إن كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الضحاك من هذا المعنى، فقد كان الضحاك والياً على قضاء الأعراب كما في رواية الترمذي، وحينئذٍ هو تحت ولاية النبي صلى الله عليه وسلم العامة، فيستفاد منها أنه لو كان في نفس البلد فله أن يكتب ذلك.
[ولا يقبل فيما ثبت عنده ليحكم به إلا أن يكون بينهما مسافة قصر].
هذا بالنسبة السفر، اشترطوا أن يكون فيه السفر وهو من مسألة مبنية على وجود الحاجة، أما إذا لم توجد فإنه يتولى القضية بنفسه وينفذها بنفسه.
[ويجوز أن يكتب إلى قاض معين وإلى كل من يصل إليه كتابه من قضاة المسلمين].
أي: يجوز أن يكتب إلى قاض معين: إلى فلان ابن فلان قاضي المدينة أو قاضي مكة، أو أن يكتب إلى عموم قضاة المسلمين، وهذا يختلف باختلاف القضايا والحقوق أنه تارة يجعل كتابه عاما وتارة يجعله خاصاً.
[ولا يقبل إلا أن يشهد به القاضي الكاتب شاهدين يحضرهما فيقرأه عليهما ثم يقول: اشهدا أن هذا كتابي إلى فلان بن فلان ثم يدفعه إليهما].
حجية الكتابة للعلماء فيها وجهان: منهم من يقوي حجيتها بخط القاضي إلى القاضي، وجماهير السلف على أن وجود شهادة الشهود تقوي العمل بالكتاب، ذلك بأن يقرأ الكتاب على الشهود أو يطلعهما على ما في الكتاب ثم يشهدان بما فيه، وأن هذا هو كتاب القاضي فلان ابن فلان في قضية كذا وكذا ويشهدان بما فيه، فحينئذٍ يكون الكتاب موثقاً، ويقبله القاضي الثاني، أما إذا لم يشهدا عليه فإنه لا يقبله.