للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الفرض الثالث: مسح الرأس والقدر الواجب منه]

قال رحمه الله: [ومسح الرأس ومنه الأذنان].

الفرض الثالث: مسح الرأس، والمسح: هو إمرار اليد على الشيء، تقول: مسحتُ برأس اليتيم، إذا أمررتَ يدك عليه، والمراد بالمسح هنا: أن يُمِرَّ يدَه المبلولة على الرأس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سكب الماء على يده، ثم مسح برأسه صلوات الله وسلامه عليه.

والرأس الذي يجب مسحه حدُّه: من الناصية إلى القفا، وهذا بالنسبة للطول، ثم من السالفة أو من عظم الصدغ إلى عظم الصدغ عرضاً، هذا يجب مسحه كله، والدليل على الوجوب قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:٦] فإن قوله: (امْسَحُوا) أمر، والقاعدة في الأصول: (أن الأمر للوجوب حتى يدل الدليل على ما دون الوجوب)، ولا دليل هنا، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه، ولم يترك المسح في وضوء البتة.

والإجماع من العلماء منعقد على أنه يجب مسح الرأس، وأن من توضأ ولم يمسح رأسه بطل وضوءه.

المسألة الثانية: ما هو الحد الذي يجب مسحه من الرأس؟ اختلفت أقوال العلماء رحمهم الله في هذه المسألة: فقال المالكية في المشهور -وهي أشهر الروايات عن مالك، وإن كان بعضهم رجَّح غيرها أيضاً-: إنه يجب مسح الرأس كله، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، وشهَّرها غيرُ واحد من أصحابه: أن الفرض الذي أمر الله بمسحه من الرأس هو جميع الرأس لا بعضه.

القول الثاني: أن الواجب مسح ربع الرأس، وبه قال الإمام أبو حنيفة وأصحابه رحمة الله على الجميع.

القول الثالث: أن الواجب مسح ثلاث شعرات، وأن ما زاد عليها ليس بواجب، وبه قال الشافعية رحمة الله على الجميع.

وهناك رواية عند المالكية: أن الواجب مسح ثلث الرأس.

هذا محصل أقوال العلماء في مسألة مسح الرأس.

فيَرِدُ

السؤال

ما هي أدلة العلماء على هذه الأقوال؟ من قال بوجوب مسح الرأس كله: احتج بظاهر القرآن في قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) قالوا: إن قوله: (بِرُءُوسِكُمْ) الباء للإلصاق، كأنه قال: امسحوا رءوسكم، وليس المراد بها التبعيض كما يقول الذين يرون أن مسح أجزاء الرأس مجزئ.

وقيل: إن الباء تأتي زائدة، واختار بعض المفسرين ممن يرجح هذا القول أنها زائدة وليست للإلصاق، فيقولون: إن قوله: (امْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) أي: امسحوا رءوسكم، وهذا مثل قوله تعالى في قراءة: {تُنْبِتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ} [المؤمنون:٢٠] (تُنْبِتُ بِالدُّهْنِ) أصلها: تُنْبِتُ الدهنَ، والباء زائدة.

وهنا ننبه على مسألة في قول العلماء: الباء زائدة، أو مِنْ زائدة! وهي: أنه ليس مراد العلماء بقولهم: إنه حرف زائد، أنه لا معنى له في كتاب الله، فإن بعض المتأخرين يسيء الأدب مع أهل العلم المتقدمين دون التفات إلى مصطلحاتهم ومقصودهم.

فليس مراد العلماء رحمة الله عليهم بكونها زائدة إلغاء كونها من القرآن؛ وإنما المراد: أن المعنى: إرادة الكل لا إرادة البعض، مثل قولنا هنا في قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) أنها لم تأت للتبعيض، فيقولون: هي زائدة.

وحملُها على الزيادة الحقيقية بمعنى أنها مُلغاة من القرآن يقتضي الكفر، فإن من أنكر من كتاب الله حرفاً ثابتاً بالتواتر يكفر والعياذ بالله، وهذا لا يقوله جاهل من عوام المسلمين، فضلاً عن علماء الأمة الذين هم أهل العلم والدراية والرواية.

فلا ينبغي للإنسان أن يكون بسيط الفهم ساذجاً ينكر على العلماء رحمة الله عليهم دون تروٍّ، ودون فَهم مقصودهم من الكلام، فإذا قالوا: هذه قراءة شاذة أو هذا حرف زائد، فليس مرادهم الشذوذ بمعنى: الانتقاص والتحقير، ولا الزيادة بمعنى: الإلغاء؛ وإنما هو معنىً موجود في هذه الحروف بأصل اللغة، والقرآن جاء باللغة، ولذلك تأتي الباء بقرابة عشرة معانٍ جمعها بعض الفضلاء بقوله: تَعَدَّ لُصوقاً واستعِنْ بتسبُّب وبدل صحاباً قابلوك بالاستعلا وزِدْ بعضَهم يميناً تحز معانيها كلها تَعَدَّ: التعدية.

لصوقاً: الإلصاق.

واستعن: الإستعانة، مثل: باسم الله.

بتسبُّب: مثل: {فَكُلَّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت:٤٠].

إلى قوله: (وزِدْ) أي: أنها تأتي زائدة، وهذا هو موضع الشاهد، وقوله: (وزِد بعضَهم) أي: تأتي زائدة وللتبعيض.

فالمقصود: أن من معانيها أنها تأتي زائدة، وهذا في لغة العرب باستقراء كلامهم وألفاظهم، هذا بالنسبة للقول الأول، قالوا: إن قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) أي: امسحوا رءوسكم.

الدليل الثاني لمن أوجب مسح جميع الرأس: من السُّنة، هو (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح جميع رأسه) ولم يُحفَظ عنه في حديث صحيح أنه اقتصر على بعض الرأس، أو جزء من الرأس، أو على ثلاث شعرات من الرأس، فلو كان الاقتصار على البعض جائزاً لفعله ولو مرة واحدة، صلوات الله وسلامه عليه.

هذا بالنسبة لأدلة من قال بوجوب مسح الرأس كله.

أما دليل من قال: إنه يجب مسح ربع الرأس -وهم الحنفية رحمة الله عليهم-: فاحتجوا، أولاً بالآية: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) وقالوا: إن الباء للتبعيض، وليس المراد بها الكل، وهذا معروف في لغة العرب، كما قال تعالى: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف:١٥٠] فليس المراد أنه أخذ الرأس كله، ولكن أخذ البعض، فَنُزِّل منزلة الكل، وتقول: أخذتُ برأس اليتيم، وليس المراد أنك أخذت الرأس كله؛ وإنما أخذت جُزْأَه، فكأنك أخذت الكل؛ لأنه بمجرد شدك لجزء من الرأس ينشدُّ جميع الإنسان، فيقال: أخذ برأسه.

قالوا: فقوله: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ): للتبعيض.

الدليل الثاني: احتجوا بحديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ في غزوة تبوك، قال: فمسح بناصيته وعلى العمامة) قالوا: والناصية تُقَدَّر بربع الرأس، ولذلك يقدرونها بأربعة أصابع، قالوا: قدر أربعة أصابع من مُقَدَّم الرأس يجزئ في المسح، بشرط أن يكون بأربعة أصابع، فلا يمسح بما دونها.

وهذا أصل عند الحنفية: أن أكثر الشيء مُنَزَّل منزلة الكل، وهذا أصل طردوه في مسائلَ لا تحصى كثرةً في العبادة والمعاملة، ولذلك تجدهم يصححون طواف من طاف أربعة أشواط بالبيت؛ لأن أكثر الطواف أربعة أشواط، فلو ترك الثلاثة قالوا: يصح ويلزمه الجبران، وهكذا سعيه، وهكذا في المبيت في الليل قالوا: لو أمسك أكثره فإنه يُنَزَّل منزلة الكل.

فهذا أصل عندهم: أن أكثر الشيء مُنَزَّلٌ منزلة الكل.

فقالوا: إن ربع الرأس إذا مُسح بأكثر الأصابع وهي الأربعة فإن هذا يجزئ، ويكفي في هذا الفرض الذي أمر الله عز وجل بمسحه.

دليل أصحاب القول الثالث الذين قالوا: إنه يمسح ثلاث شعرات: احتجوا بقوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) قالوا: الباء للتبعيض، وبناءً على ذلك يكون قوله: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ): أي: بعض رءوسكم، ولا يجب مسح كل الرأس، وهذا البعض الذي يصدُق عليه أكثر الجمع أنه من الرأس إنما هو الثلاث فأكثر، وهي قاعدة في المذهب الشافعي وغيره، في مسائل: أن أقل الجمع ثلاثة، وبناءً على ذلك قالوا: أقل الرأس ثلاثُ شعرات، فإذا مسح الثلاث صَدَق عليه أنه مسح برأسه، وهكذا لو حلق في الحج ثلاث شعرات أو قَصَّر ثلاث شعرات أجزأه، وهذا أصل عند الشافعي رحمة الله عليه.

هذا حاصل أدلة مَن قال بالتبعيض.

تبقى أدلة القول الأخير الذي حكيناه رواية عن الإمام مالك: أن الثلث من الرأس يجزئ، وهذا أصل عند المالكية أيضاً: أن الثلث يُنَزَّل منزلة الكل في مسائل، منها: مسألة المساقاة، والمزارعة، إذا كان بالأرض بياض يعدل ثلث الذي سُقِي عليه لحق المساقاة، وجاز أن يتعامل مع العامل على إحيائه، قالوا: لحديث سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير) قالوا: النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والثلث كثير) فمن مسح ثلث رأسه فقد مسح الكثير فيجزئه، وهذا قول طائفة من أصحاب الإمام مالك رحمة الله عليه.

هذا محصل حجج العلماء في مسألة المسح على الرأس.

وأصحها -والله أعلم- في نظري: القول بوجوب مسح الرأس كله، وذلك لما يأتي: أولاً: لظاهر القرآن؛ فإن حمل الباء على التبعيض تجوُّز، والأصل حملها على ما ذكر من الإلصاق؛ لأنه أقرب إلى معنى المسح، فإن قولك: مسحتُ برأسه على أنه للإلصاق أقرب من قولك: إنه للتبعيض؛ لأن التبعيض خلاف الأصل، ولذلك يأتي غالباً في المعاني المجازية.

ثانياً: أن السُّنة التي احتُجَّ بها على التبعيض -وهو دليل القول الثاني الذي قال: يجب مسح ربع الرأس- يجاب عنها: بأن الحديث فيه: (مَسَحَ بناصِيَتِه وعلى العمامة) فيَصح الاستدلال بهذا الحديث فيما لو اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على مسح الناصية، ونحن نقلب هذا الحديث ونقول: هو حجة لنا لا علينا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أتبع مسح الناصية بالمسح على العمامة.

لكن هنا إشكال أورده الحنفية رحمة الله عليهم، قالوا: لو قلتم: إن مسحه للعمامة المراد به مسح فرض لبطلت أصولكم؛ لأنه لا يصح في الأصل أن يُجْمع بين البدل وبين المبدل، فإن الرأس إما أن يمسح عليه أو يمسح على العمامة.

فإما أن تقولوا: مسح الناصية هو الفرض، ويكون مسحه على العمامة لاغٍ فيستقيم دليلُنا، أو تقولوا: مسح العمامةِ هو الفرض، والناصيةُ ملغاةٌ، وهذا خلاف الظاهر.

فكيف الجواب عن هذا الإشكال؟

الجواب

أن يقال: إن المسح على العمامة في هذا الحديث هو الأصل؛ ولكن يجوز في العمامة أن يُكشف ما جرت العادة بكشفه، بدليل أن من تعمَّم العمامة المعروفة فإن السوالف تخرج، والخارج المعتاد مغتفر في المسح على العمامة؛ ولكنه يُمْسح إبقاءً على الأصل، وكشف الناصيةُ صنيع أهلِ الفضل، وهذه من السنن: أن الإنسان لا يبالغ في إرخاء ستر الوجه إلى حواجبه، لأنه صنيع أهل الكبر والخيلاء، ولذلك قالوا: إنه يُكشَف عن الناصية، ويكون كشف النبي صلى الله عليه وسلم عنها في هـ

<<  <  ج:
ص:  >  >>