[المظهر الرابع: جحد ما علم من الدين بالضرورة]
يكون الكفر بالاعتقاد كما ذكرنا في الشرك، ويكون بالأقوال: كسب الله عز وجل وسب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر هنا مسألة إنكار المعلوم من الدين بالضرورة، وتحليل الحرام، أي اعتقاد حل الحرام المجمع عليه، أو عكسه من اعتقاد حرمة الحلال المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة، أو الذي قامت الحجة بتحليله أو تحريمه.
يقول رحمه الله: [ومن جحد تحريم الزنا] والزنا من الأمور المعلومة الظاهر تحريمها، وقد اتفقت الشرائع السماوية على تحريم الزنا، وليست هناك شريعة تجيز الزنا، ولذلك لو قال: إن الزنا حلال، ولا شيء فيه، وبعضهم يقال له: إن هذا الرجل زنا بالمرأة، يقول: لا بأس، هذه حرية، وليفعل ما يشاء، والمرأة حرة تفعل ما تشاء، فإن شاءت أن تزني فلها ذلك، وكذلك الرجل فهذا تحليل لما حرم الله، وإذا اعتقد حل ما حرم الله فهو يكذب الله، فإن الله يقول: هذا حرام، وهو يقول: هذا حلال! وحينئذٍ يكون قد ضاد الله في شرعه وحكمه، وتحليل الحرام كتحريم الحلال، وإن كان الشهوات تختلف في تحليل المحرم بخلاف تحريم الحلال، فإن هذا جانب إفراط والثاني جانب تفريط، فالأول يُفْرِط والثاني يفّرط.
قوله: [أو شيئاً من المحرمات الظاهرة] أي: إذا كان الشيء محرماً وظاهر التحريم، ولا يكون ظاهر التحريم ولا واضح الحرمة إلا بالنصوص من الكتاب والسنة، وعند اعتقاده للضد يكون -كما ذكرنا- قد ضاد الله في شرعه، وحينئذٍ يكون موجب التكفير تكذيبه لله عز وجل، وتكذيبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأنت ترى الرجل حينما تقول له: إن الله حرم الزنا، قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:٣٢] وحرمه رسوله صلى الله عليه وسلم، وعاقب من فعله، فيقول: ليس فيه شيء.
فما معنى هذا؟ معناه أنه يكذب الله ويكذب رسوله، لأنه يقول: ليس فيه شيء! والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:٣٢] وهو يقول: لا، ليس فيه شيء، وهذه حرية، وهذا انطلاق، أو يأتي بالعكس، فيقول: هذا حكم متحجر، هذا تخلف، لكن بشرط أن يكون معلوماً عنده، أي: لا يكون حاله يوجب العذر لوجود شبهة فيه.
مثلاً: لو أن شخصاً أسلم وكان حديث الإسلام، وبيئته فيها الإباحية -والعياذ بالله- أو بيئة فيها جهل، ويقعون في المحرمات، فيشربون الخمور ويفعلون الزنا، فأسلم ثم شرب الخمر أو فعل الزنا، فقيل له: إن الزنا حرام، قال: لا، الزنا ليس فيه شيء، نقول: إن هذا معذور لجهله، فتقام عليه الحجة، ويعلَّم.
قوله: [المجمع عليها] أي: كالخمر والربا، ونحو ذلك من المحرمات الظاهرة المجمع على تحريمها، فإذا قال: ليس فيها شيء، وكذب الله رسوله في حكمه وضادهما في الشرع؛ فإنه يحكم بردته والعياذ بالله.
قوله: (بجهل) أي: إذا كان يجهل الحكم، فهذه من المسائل التي نص العلماء فيها على العذر بالجهل، وذلك أن يكون الشخص حديث عهد بإسلام وقد وقع هذا، ونعرف بعض الحوادث حيث أسلم الشخص وكان حديث العهد بإسلام، ثم قيل له بعض المحرمات الظاهرة، فقال: ليس فيها شيء، ثم قيل له: لا، إن الله عز وجل يقول، ورسوله عليه الصلاة والسلام يقول، والشرع يحرم هذا الشيء؛ فقال: سمعت وأطعت، فمثل هذا كان معذوراً في جهله، وحينما نطق بحكم الحل، فإنه معذور في هذا، ولا يحكم بكفره بذلك.
قوله: (عُرِّف ذلك) أي: أقيمت عليه الحجة، وبُين له نص الكتاب والسنة والأدلة التي تدل على التحريم، أو التحليل إذا حرم حلالاً، كما يفعله الغلاة من الزهاد والمتنطعين والغالين في العبادة، فمن غلا في تحريم شيء ثم قيل له: هذا الشيء أحله الله، وكان حديث عهد بإسلام ولا يعلم هذا التحليل وأقيمت عليه الحجة؛ فإنه حينئذٍ إذا أقيمت عليه الحجة ورجع، لا يحكم بردته وكفره؛ سواء حلل ما حرم الله أو حرم ما أحل الله.
قوله: [وإن كان مثله لا يجهله كفر] أي: حكم بكفره في الظاهر، كشخص يعيش بين المسلمين، وولد بينهم، ويعرف أحكام الإسلام وشرائعه، وفجأة جاء وقال: إن الزنا حلال! أو إن الخمر حلال، أو إن الربا حلال، فمثل هذا لا يجهل هذه الأمور، وليس بجاهل فيعلم، فإذا توفرت الدواعي وقامت الأمارات، وكان الظاهر على حاله وبيئته أنه يعلم أخذ بهذا الظاهر، وحكم بكفره ظاهراً، كما يقولون: حكم القضاء، وحكم الديانة.
لكن لو أنه بين لنا شبهة واضحة يعذر بها عذرناه، لكن في الظاهر نحكم بكونه كافراً، فلو خرج رجل من بين المسلمين في بيئة إسلامية معلومة فيها شرائع الإسلام وقال: الزنا ليس فيه شيء! هل نقول: إن مثل هذا يعذر بالجهل، أو يؤخر حتى نقيم عليه الحجة؟ هذه أمور ظاهرة وواضحة، فمثل هذا يحكم بكفره في الظاهر.
وأما إذا كان هناك ما يحتمل؛ فإنه ينتظر حتى تقام عليه الحجة، وإذا ثبت جهله، فإنه يعذر بالجهل.