ولا يفسخ هذا النوع من الأنكحة إلا حاكم، وهو القاضي الذي له حق النظر في هذه الخصومات، فلا يأتي طالب علم فيفتي في هذه المسائل، لأن مسائل الخلاف بين الناس تحتاج إلى القضاة، والقاضي ينصف الخصمين بأصول الشريعة، والضوابط الشرعية في القضاء أنصفت كلا الخصمين.
فالمفتي في هذه المسائل لا يتدخل، وطالب العلم لا يفتي في هذه المسائل، إنما يحيلهم على القاضي؛ لأنها مسائل يحصل فيها الخلاف، فالإعسار يحتاج إلى إثبات، والإثبات يحتاج إلى نظر ورجوع إلى أهل الخبرة، فليس كل من هب ودب يفتي في هذه المسائل أو يتكلم، فيها وإنما ترد إلى القضاة.
ومن هنا في هذه الأزمنة جرت العادة في مسائل الطلاق أن لا يفتي فيها كل أحد، من كثرة مشاكل الناس والكذب.
فالمسائل التي فيها خلاف ويحدث فيها تلاعب ترد إلى القضاة وترد إلى ولاة الأمر؛ لأن الناس بغير ذلك يصبحون في فوضى.
ففي زماننا مثلاً يأتيك الرجل -وهذا قد حدث وسمعناه ورأيناه- ويقول لك: قلت كذا وكذا، فتأتي المرأة تقول: لا، بل قال: كذا وكذا، ويأتي الرجل ويقول لك: قلت كذا وكذا، ويترك كلمة أو لفظه أو حالة للمرأة، والمرأة أيضاً تقول شيئاً غير الذي يقوله الرجل، فعندما تربط هذه المسائل بالقضاء وتربط بكبار العلماء يعرف الناس خطر الطلاق، ويعرف الناس خطورة هذا الباب، فما كل واحد يطلق، فإنه حينما يتعنى ويتعب، ويظل يتصل بأشخاص معينين وبعلماء معينين، ويجد نوعاً من التعب والعنت، فيهاب هذا الباب، ويصبح من مصالح الناس وعامة الناس أن يربطوا بكبار العلماء أو يربطوا بالقضاة، حتى يشعروا بخطر الطلاق، ولا يتلاعب بالطلاق.
وهذا يقع، خاصة عند فساد الأزمنة، تجد الرجل -نسأل الله السلامة والعافية- في بعض الأحيان لا يخاف الله ولا يتقيه، فربما يأتي ويقول لك: قلت: أنتِ طالق، وهو قد يكون قال لها: أنتِ طالق بالثلاث، وقد يقول: قلت لها: أنتِ طالق طالق طالق، فيسمع أنه إذا قال: أنتِ طالق طالق طالق، تحتمل المرة، فيصرف في الألفاظ ويحرف في الألفاظ على ضوء ما يسمع من الفتاوى، ويأتي إلى شيخ جليل معروف موثوق به، أو يقول لأولياء المرأة: نذهب إلى فلان نقبل فتواه، فيأتيه بالعبارة التي سمع أنها لا تؤثر، وهذا من أبلغ ما يكون في انتهاك حدود الله -نسأل الله السلامة والعافية- فإنه لو غير لفظة أو كلمة يريد أن يحتال بها على الله وعلى دين الله فلن ينفعه؛ لأن فتوى المفتي وقضاء القاضي لا يحل الحرام، ويصبح هو وامرأته على الزنا -والعياذ بالله- لو كانت حراماً عليه.
فالأمر في هذا جد خطير، ولذلك العلماء قالوا: الفسخ عند الحاكم [ولا يفسخه إلا حاكم] أي: في مسائل الخلاف، وفي عصورنا الآن جرت العادة أن ترد مسائل الطلاق لكبار العلماء؛ لوجود الخلاف بين الناس ووجود التلاعب بين الناس.
واقتضت الحكمة أن مثل هذه المسائل لا يفتح فيها الباب لكل من هب ودب أن يفتي، حتى لا يصبح الناس فوضى، هذا يقول: حلال، وهذا يقول: حرام، وهذا يقول بالتفصيل، فيضيع الناس، ولا يدرون أين يذهبون.
فالفتاوى في مثل هذه المسائل، والبت والحكم في هذه المسائل يرجع فيه إلى من له حق النظر فيها، حتى يكون أبلغ في إقامة الناس على السنن.