[الالتفات]
فيقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: ويكره في الصلاة التفاته] بعد أن فرغ المصنف رحمه الله من بيان صفة الصلاة المشروعة الكاملة، وشرع الآن في بيان ما يُكرَه للإنسان أن يفعله في الصلاة، ولذلك قال: [فصل]، وأصل الفصل: قطع الشيء عن الشيء، والفاصل: هو الحائل بين الشيئيين.
ووصف العلماء رحمهم الله هذه المواضع بكونها فصلاً؛ لأنه يُفصَل بها بين المسائل والأحكام لاختلاف أجناسها وما تضمنته من معانٍ.
وهذا الفصل سيتكلم المؤلف رحمه الله فيه على الأمور المكروهة، وهي التي يتركها الإنسان فيُثَاب على تركها، ولا يعاقب على فعلها، والسبب في إيراد هذا الفصل في المكروهات هو أن اتقاء هذه المكروهات يحصل به المكلف على كمال الصلاة، فلما فرغ من صفة الصلاة الكاملة نبه على أن هذا الكمال ينبغي أن يكون مصحوباً بترك هذه الأمور التي فِعلها يُعد خلاف الأولى.
والمكروه: هو ما يُثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، ويأتي النهي عنه من الشرع إما في الكتاب، وإما في سنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابتة عنه، وتدل الأدلة على أن هذا النهي الوارد في الكتاب، أو الوارد في السنة ليس على ظاهره وإنما هو على الكراهة.
قوله: [يكره في الصلاة التفاته] أي: يكره للمصلي إذا كان في صلاته أن يلتفت، يُقال: التفت إذا صَرَف وجهه قبل اليمين أو قبل الشمال، وهذا الالتفات يكون من المكلف على صورتين: الصورة الأولى: أن يَصرِف وجهه مع بقاء جذع جسمه.
الصورة الثانية: أن يصرف الوجه والجسد.
ومراد المصنف رحمه الله هنا صرف الوجه وحده، فإن السنة لمن وقف بين يدي الله عز وجل أن ينصب وجهه، وأن لا يلتفت يميناً ولا شمالاً، وهذا من تعظيم أمر الصلاة، وتعظيم الموقف بين يدي الله عز وجل، ولذلك أمر الله باستقبال القبلة، ويكون استقبال المكلَّف لها بجميع جسمه، فإذا التفت فقد صرف وجهه عن قبلته؛ ولذلك يُعتبر هذا ممنوعاً عن المصلي.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سُئِل عن الالتفات الذي يقع من الناس، فقال عليه الصلاة والسلام: (هو اختلاسٌ يختلسه الشيطان من صلاة العبد)، وأصل الاختلاس: الأخذ بسرعةٍ مع غفلة المأخوذ منه، أي: يأخذ الشيطان حظاً بهذا الالتفات من صلاة الإنسان، حتى قال بعض العلماء: إنه ينقص أجره على قدر ما كان منه من الالتفات.
والالتفات إذا كان ضرورياً لحاجةٍ؛ أو أمرٍ ناب الإنسان فالتفت من أجله، فهذا إن كان يسيراً فإنه لا يضر ولا يؤثر في الصلاة.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقر أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه حينما كان في الصلاة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تأخر عن الحضور بسبب كونه يُصلِح بين حيين من بني عوفٍ بقباء، فتأخر النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فجاء بلال إلى أبي بكر وأخبره، فأقام بلال الصلاة وتقدم أبو بكر رضي الله عنه؛ فلما كان في الصلاة قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبَّح الناس لـ أبي بكر، وكان أبو بكر رضي الله عنه لا يلتفت من كمال خشوعه وصلاته، فلما أكثر الناس عليه التسبيح التفت فإذا هو برسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأخر، فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك إلى آخر الحديث.
ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ أبا بكر حينما التفت، ولم يجعل التفات أبي بكر موجباً لبطلان الصلاة، فأخذ العلماء من هذا دليلاً أن المكلَّف إذا كان في الصلاة والتفت لمصلحة الصلاة، أو لأمر مضطر إليه لمصلحة نفسه، كأن يظن أن عقرباً يتحرك عن يمينه، أو حيةً تحركت عن شماله فخاف على نفسه فالتفت، فحينئذٍ يكون مضطراً إلى هذا الالتفات ومُحتاجاً إليه، فلا يوجب بطلان صلاته.
والالتفات يكون جزءاً وكلاً، فالالتفات الكامل: أن يصل الذقن إلى العاتق، وفي هذه الحالة يكون الالتفات كاملاً، وأما الالتفات الجزئي فيكون بصرف الوجه قليلاً، وهذا لا يؤثر، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل إذا شوّش عليه الشيطان في صلاته فيتفل عن يساره ثلاثاً.
فإذا كثُرت وساوس الشيطان على الإنسان وهو في الصلاة، وقال له الشيطان: اذكر كذا، اذكر كذا.
يريد أن يصرفه عما هو فيه من أمور الصلاة والخشوع فيها فإنه يُحرِّك رأسه قليلاً دون أن يلتفت التفاتاً كاملاً، ثم يتفل عن يساره، أي جهة اليسار، فكونه عليه الصلاة والسلام يقول: (وليتفل عن يساره) يدل على أنه نوع التفاتٍ، وهو جزء الالتفات الذي ذكرناه.
أما الالتفات الكامل فقد قلنا: إنه إذا وُجِدت الضرورة فلا إشكال، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه التفت إلى الشِّعب وهو في الصلاة، وجاء في بعض الروايات أنه كان يلتفت إلى الشعب، وأن الشعب كان في جهة القبلة وهذه الرواية تخفف من شأن الالتفات؛ لأنه لو لم تأت هذه الرواية لفُهِم منه أنه التفات خارجٌ عن جهة القبلة؛ ولذلك لا حرج على المكلف أن يلتفت قليلاً، أو يُحرِّك رأسه قليلاً، ولكن مع هذا فإنه بالتفاته من دون حاجةٍ معرَّضٌ لفوات الكمال، ولذلك جاء في الحديث: (لا يزال الله عز وجل مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه انصرف عنه)، وهذا يدل على فوات الكمال، والحظ الأوفر للعبد إذا صلى واستشعر موقفه بين يدي الله ولم يلتفت.
أما النوع الثاني من الالتفات: فهو الالتفات بالجذع، وهو الذي يتحرك الإنسان فيه إلى درجة ينحرف فيها عن القبلة، فلو أن إنساناً كان في صلاته ثم سمع صياح صَبِيِّه، فالتفت فتحرك جذعه حتى تحركت قدماه بحيث خرج عن كونه مستقبلاً الشرق فاستقبل جهة فرعية أو جهةٍ أصلية فإنه تبطل صلاته ولو كانت لضرورة، إلا ما استثني من ضرورة القتال؛ فإنه في حال ضرورة القتال يُستثنى لمكان نص الله عز وجل على ذلك في آية المسايفة.