قال رحمه الله:[ويعفى في غير مائعٍ ومطعوم عن يسير دم نجس من حيوان طاهر] الدم نجس، وهو قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:(اغسلي عنك الدم) وكذلك قوله في دم المرأة المستحاضة: (إنما ذلك عرق) قالوا: فكما أن دم المستحاضة خرج من عرق فسائر دم الإنسان خارج من عرق، ولذلك قالوا: إن الدم نجس، وظاهر القرآن يقويه في قوله تعالى:{أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}[الأنعام:١٤٥] والدم المسفوح يكون من البهيمة عند قتلها وتذكيتها ويكون كذلك من الآدمي، فهو الدم الذي يراق في حال الحياة، ولذلك أجمعوا على أن الدم الذي يراق عند ذبح الشاة أو نحر البعير أنه نجس، وهذا بالإجماع كما حكاه ابن حزم في مراتب الإجماع، حيث نقل إجماع العلماء على أن الدم المسفوح عند التذكية نجس، وذلك لظاهر قوله تعالى:{أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}[الأنعام:١٤٥] فالجماهير لما قالوا بنجاسة الدم قالوا: إن القرآن أطلق، فوصف كل دم مسفوح بكونه رجساً، والدم المراق في الحياة هو دم مسفوح؛ لأن الدم المسفوح هو الذي خرج عند الذكاة والبهيمة حية، ولذلك إذا سكنت البهيمة وماتت بالتذكية فسائر الدم الذي في أجزائها يعتبر طاهراً.
والذين قالوا بطهارة الدم احتجوا بحديث الجزور، أي: لما نحر عليه الصلاة والسلام الجزور ثم سلخه وصلى ولم يغسل أثر الدم فيه.
وهذا محل نظر، فإن الدم الذي يكون عند السلخ لا يعتبر نجساً حتى يكاد يكون عليه الإجماع، ألا ترى أنك تأخذ كتف البهيمة ويطبخ ويشوى وفيه أثر الدم، فالاستدلال بهذا الحديث استدلال بما هو خارج عن موضع النزاع.
واستدلوا كذلك بحديث عباد بن بشر لما جاءه السهم وهو قائم يحرس، فنزعه فنزف، فقالوا: لو كان نجساً لقطع صلاته، وهذا يعارض المنطوق الذي ذكرناه:(اغسلي عنك الدم) وجوابه كما نبه عليه شراح الحديث في غير ما موضع أن حديث الصحابي في النزيف، والنزيف سواءً كان بسهم أو كان باستحاضة -كالمرأة المستحاضة- فإنه متفق على أنه يعتبر رخصة، يعني: يصلي الإنسان ولو جرى معه الدم، كما صلى عمر رضي الله عنه وجرحه يثعب؛ لأنه لا يستطيع الإنسان أن يوقف النزف؛ وإنما يستقيم الاستدلال بهذه الأدلة أن لو كان الدم فيها قليلاً بمعنى: أنه يرقأ، فلو كان الدم يرقأ لعارض ظاهر ما ذكرناه من النصوص ولكنه في مسائل مستثناة، ولذلك لا يعتبر حجة على الجمهور؛ لأن الجمهور يقولون: من نزف جرحه أو رعف أنفه أو المرأة المستحاضة غلبها الدم فهذه تصلي على حالتها ولو خرج منها الدم، وكذلك الذي رعف لو غلبه الرعاف فإنه يصلي على حالته ولو كان على ثوبه ولو كان على بدنه؛ لأن التكليف شرطه الإمكان، فليس هذا دليلاً في موضع النزاع.
وكذلك قصة عمر لأنها في النزف؛ وقد قال عليه الصلاة والسلام:(اغسلي عنك الدم) قالوا: إن هذا دم حيض، ولا شك أن صورة السؤال تقتضي أنه دم حيض، ولا فرق بين دم الحيض وغيره.
قالوا: لا.
هناك فرق فإن دم الحيض يخرج من الموضع ولذلك حكم بنجاسته، فنقول: الموضع لا تأثير له، ألستم تقولون: إن مني المرأة طاهر وهو خارج من الموضع؟! فلو كان خروجه من الموضع -أي: دم الحيض- هو المقتضي لنجاسته لكان المني الخارج من الموضع نجساً، ولذلك فخروجه من الموضع لا يقتضي نجاسته بدليل أن الولد يخرج من الموضع وهو ليس بنجس، والولد أصله علقة ودم ومع هذا لم نحكم بنجاسته، فدل على أنه نجس لذات الدم، وانتفى في الولد لاستحالته؛ فإنه بعد العلقة خُلِّق فاستحال من كونه دماً إلى كونه مخلوقاً، فلم يكن نجساً من هذا الوجه.
وبناءً على ذلك أمر عليه الصلاة والسلام المرأة الحائض أن تغسل الدم، ويُشعر هذا بأن العلة معلقة على كونه دماً لا كونه دم حيض، وإذا ثبت كونه دماً استوى أن يكون دم حيض أو يكون من غيره؛ ويقوى هذا بحديث المستحاضة فإنهم يقولون: إن المستحاضة تغسل الدم أيضاً، فأمروها بغسل الدم، وقالوا: نحكم بنجاسته لورود الشرع به وهو مستثنى، فنقول: إن دم المستحاضة قيل فيه كما في الحديث الصحيح: (إنما ذلك عرق) وجاء في الحديث الآخر: (إنه العاذل) والعاذر، والعاند وكلها أسماء لهذا العرق كما يقول بعض العلماء، فما دام أنه قال:(إنما ذلك عرق) أي: دم خرج من عرق فسائر الدماء التي تخرج من البدن إنما هي من عرق، ولذلك قال جمهور العلماء: إن الدم نجس، ولم يخالف في ذلك إلا بعض أهل الظاهر وبعض أهل الحديث، والأقوى في هذه المسألة أن الدم نجس، وبناءً عليه فإنه يفرق بين كثيره وقليله، فقد أجمع العلماء على أن يسير الدم معفو عنه، وفيه حديث ضعيف وهو حديث الدرهم البغلي، والصحيح: أنه لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم استثناء هذا القدر؛ وإنما استثني بالإجماع.