للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم الوصية بما يعجز عن تسليمه]

قال رحمه الله: [تصح بما يعجز عن تسلميه؛ كآبق وطير في الهواء، وبالمعدوم، كما يحمل حيوانه وشجرته أبداً أو مدة معينة، فإن لم يحصل منه شيءٌ بطلت الوصية].

قوله: (تصح بما يُعجز عن تسليمه)، الشيء المعجوز عن تسليمه يصح في بعض الأحيان أن تتعامل وتتعاقد به، كما في الوصية هنا، ولا يصح في بعض الأحيان التعامل به، فلو كان الشيء المعجوز عن تسليمه مُباعاً؛ لم يصح البيع.

والمقصود بالمعجوز عن تسليمه: عجز عن الشيء إذا لم يستطع، ومعنى ذلك: أنك تُوصِي بشيءٍ أنت عاجزٌ عن دفعه وإيصاله للمُوصَى له، ويعجز من يقوم مقامك من الورثة عن إيصاله إلى الموصَى له.

وقوله: (كآبق) أي: مثل العبد إذا أبق وشرد عن سيده، ولم يستطع معرفة مكانه، أو لم يستطع أخذه؛ فحينئذٍ يكون معجوزاً عن تسليمه، فصاحبه المالك له يعجز عن تسليمه، وإذا وصَّى بعبدٍ آبق، أو بعيرٍ شارد، وهم يمثلون بهذه الأمثلة لأنها كانت في زمانهم، كما إذا شرد البعير، أو شردت البقرة، أو شردت الشاة؛ فحينئذٍ يصعُب أن يحصل الإنسان عليه في الغالب، فإذا لم يستطع أن يجده فإنه لن يستطع تسليمه للغير، فهو معجوزٌ عن تسليمه.

فكل شيء فُقد ولم يستطع صاحبه أن يعرف مكانه، أو عرف مكانه ولكنه لا يستطيع أخذه، مثل: المغصوب ونحوه؛ فإنه معجوزٌ عن تسليمه، فهذا النوع من الأشياء لا يجوز أن تتعامل به في عقود المعاوضات.

فلا تُجيز لك الشريعة أن تبيع شيئاً معجوزاً عن تسليمه، ولكن تجيز لك أن تُوصِي به وما الفرق بين الأمرين؟ لأنه في البيع إذا اشترى منك إنسان شيئاً ضائعاً منك؛ كساعة مفقودة، أو بعير شارد، أو دابة فرت منك، أو طير طار منك، كان عندك ثم طار؛ فإنه في هذه الحالة تُغرِّر به؛ لأنه يُحتمل أن يأخذ ذلك الشيء ويحتمل ألا يأخذه، والغالب أنه لا يأخذه، فأصبحت آخذاً لمال أخيك بدون حق.

وهذه العلة أشارت إليها السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث أنس في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها)، ثم علل عليه الصلاة والسلام وقال كما تقدم معنا في البيع: (أرأيت إن منع الله الثمرة) أي: أخبرني، لو بعت هذا الشيء المعجوز عن تسليمه ولم يستطع من اشتراه منك أن يصل إليه، ثم قال عليه الصلاة والسلام (فبم تستحل مال أخيك؟) أي: بأي حق تأخذ الخمسمائة ريال التي دفعها لك أخوك المسلم لقاء ذلك البعير، فإذا أصبح غير مستطيع الوصول إلى البعير، كان أخذك لهذه الخمسمائة من أكل المال بالباطل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فبم تستحل مال أخيك؟).

وهذا يدل على أن الشريعة في المعاوضات تريد إيصال كل عِوض إلى صاحبه، وهذا هو ما قرره الأئمة رحمهم الله، ولـ شيخ الإسلام رحمه الله في بيع المعدوم كلام نفيس في مجموع الفتاوى، بين أن العدل أَن يُعطى كل ذي حق حقه في المعاوضات.

فمن اشترى شيئاً لقاء شيء فإنه ينبغي أن يُمكّن من ذلك الشيء الذي اشتراه؛ فإذا لم يُمكَّن منه فقد ظُلِم؛ لأنه أعطى غيره ولم يأخذ منه، وهو إنما أعطى الغير ليأخذ؛ فالبائع أعطى السلعة من أجل أن يأخذ الثمن، والمشتري أعطى الثمن من أجل أن يأخذ السلعة؛ فإذا ظلم أحدهما الآخر فأخذ منه ولم يعط، فقد أكل ماله بالباطل، وهذا هو الذي جعل الأمر يختلف بين الوصية وبين البيع، وحينئذٍ في الوصية حينما يقول الشخص: أوصيت ببعيري الشارد لمحمد، فهذه الوصية ليس لها عوض يقابلها، أي: لم يدفع محمد مالاً إلى الميت الذي وصَّى، وإنما تفضل الميت وتبرع وأحسن وأفضل حينما قال: هذا البعير الشارد أَعطوه محمداً، فإن حصل محمد على البعير الشارد فقد تحقق المقصود والموصِي له أجره، وإن لم يحصل فلا ضرر عليه؛ لأنه لم يدفع شيئاً في مقابل هذا البعير.

ومن هنا صحت الوصية بالمجهول، وصحت بالمعدوم، وصحت بالمعجوز عن تسليمه؛ لأنه لا غرر في ذلك، فتصح الوصية بالبعير الشارد، والطير في الهواء، والسمك في الماء، فلو أن سمكة كان يملكها ثم سقطت في الماء فوهبها، صحّت؛ لأن هذا كله لا غرر فيه على الموصَى له.

وقوله: (وطير في الهواء) الطير في الهواء -طبعاً- يصعب الوصول إليه، ولكن أياً ما كان فالوصية تخالف البيع؛ لأن الوصية لا عوض فيها، والبيع فيه عوض.

<<  <  ج:
ص:  >  >>