[نصيحة لطالب العلم]
السؤال
في هذه الأيام يعيش الطلاب أواخر الإجازة الصيفية، وبعض طلاب العلم استغلوا هذه الإجازة في طلب العلم ودراسته، فما هو توجيهكم في ختام هذه الإجازة لهذا النوع؟
الجواب
أولاً: الحمد لله على فضله وعظيم منته وجزيل كرمه، ولا يزال المسلم بخير ما حمد ربه وشكره وعرف نعمته عليه، فمن عرف نعمة الله عليه ذلّ لله وانكسر، ثم إن هذه المعرفة تقوده إلى محبة الله عز وجل، ومن أحب الله أحبه الله عز وجل، ويسر له سبيل المحبة، فانتقلت به الخطى من طاعةٍ إلى طاعة ومن برٍ إلى بر، وازداد من توفيق الله له وإحسانه وإنعامه وإفضاله عليه، فإن الله في كتابه المبين أخبر عباده أجمعين أنه يجزي الشاكرين وأنه يزيد من شكر، وتأذن لهم بذلك كما قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:٧]، وأفضل ما يُشكر عليه سبحانه نعمة الدين، فمن وفقه الله عز وجل لهذه النعمة العظيمة وأسبغ عليه نعمة الإسلام فجعلها على أتم الوجوه وأكملها فقد عظمت نعمة الله عليه، ولا يمكن أن تكمل نعمة الإسلام على عبدٍ من عباد الله إلا بالعلم، فليس هناك أحد في مقام بعد الأنبياء أشرف ولا أكرم من العلماء العاملين، فإذا وفقك الله وحضرت مجالس العلم فتذكر نعمة الله، واعرف مقدار هذه النعمة.
ثانياً: من الذي أمدك بالصحة والعافية؟ من الذي أمد في عمرك حتى بلغت يوماً تكسبه في طاعة الله أو ساعةً تدخرها إلى لقاء الله في محبة الله ومرضاته؟ فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).
فمن الذي أمدك بالصحة والعافية؟ وكم من مريض كان يتمنى أن يصل إلى ما وصلت إليه وحيل بينه وبين مجالس العلم، وقلبه يتفطر بالحزن والألم بالسقم والمرض، فاحمد الله على العافية، وقل من قلبك وملء لسانك: اللهم لك الحمد لا أحصي ثناءً عليك.
ثالثاً: عليك أن تعلم أن هذه النعمة التي ربما تكون في عينك قليلة أنها عظيمةٌ عند الله، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً خرج من قريةٍ له يزور أخاً له في الله، فأرسل الله إليه في مدرجته وطريقه ملكاً، فقال له: إلى أين أنت ذاهب؟ قال: إني ذاهب إلى قرية كذا، قال: وما لك فيها؟ قال: لي فيها أخٌ في الله، قال: هل لك عليه من نعمةٍ تربها عليه؟ قال: لا.
إلا أنه أخي في الله أحببت أن أزوره، فقال: إني رسول الله إليك أن الله قد غفر إليك بممشاك إليه).
فإذا كانت محبة هذا الرجل لأخيه في الله كانت سبب مغفرة ذنوبه، فكيف بمن أحب العلم والعلماء؟ وكيف بمن خرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله، فتغرب عن أهله وولده وزوجه وحبه من أجل دروس علم، أو فوائد من العلم يجنيها فيسد ثغور الإسلام لنفع الأمة؟ فبخٍ بخٍ يا لها من تجارةٍ رابحة ويا لها من نعمةٍ سابغةٍ وافرة، ولكن من الذي يعرف قدرها؟ ومن الذي يشكر من أسداها وأولاها وهو الله رب العالمين الذي لا نحصي ثناءً عليه سبحانه وتعالى؟ فعلى طالب العلم أن يشكر هذه النعمة، وكما يشكرها بقلبه ولسانه يشكرها بالعمل، فيزيده شهود مجالس العلم من حبها، ويزيده من التعلق بها حتى تصبح سلوته، تتبدد بها أحزانه وتزول بها أشجانه، حتى يصبح حزنه إذا فارق مجالسها أو تأخر عن أنسها ولذتها وبهجتها، فيا لله! كم من طلاب علمٍ أتم الله عليهم نعمةَ العلم، فسلوا بالعلم عن هذه الدنيا الفانية، فأصبح العلم أكبر همهم وغاية رغبتهم وسؤلهم، فرفع الله درجاتهم، وقد قرن الله العلم بأشرف الأشياء وأحبها وأزكاها إليه سبحانه وهو الإيمان، وقرن جزاءه وفضله وعاقبته بالإيمان: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:١١]، وهذا كله يدل على شرف هذه النعمة العظيمة، فاحمد الله حق حمده بالعمل، ويكون ذلك بمراجعة ما تعلمت، وضبط ما كتبت وقرأت وسمعت، حتى تكون بخير المنازل في هذا العلم، فإن الله يحب من طالب العلم أن يكون في أحسن المراتب والمنازل في ضبط العلم وتحصيله والأخذ به على الوجه الذي يرضي الله، قال الله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:١٢]، العلم يحتاج إلى قوة وهمة صادقة، يراجع فلا يسأم ولا يمل، ويحمد الله عز وجل أن الله شرفه حتى أصبح يراجع هذه المسائل، ويقرأ هذه الحكم والأحكام الشرعية بعد أن كان جاهلاً بها؛ فإن الله يقول لنبيه من فوق سبع سماوات: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:١١٣]، قال بعض العلماء: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}، ذُكِرت بعد العلم، فالذي علمك الله إياه مما لم تكن تعلم فإنه الفضل العظيم، فعلى طالب العلم أن يراجع هذه المسائل.
والنقطة الأخيرة: أن يُظهر طالب العلم هذا العلم في سلوكه وأخلاقه وعمله، فيجمع بين العلم والعمل، فإذا جمع الله لعبده بين العلم والعمل كان من الصديقين، ومرتبة الصديقين بعد مرتبة النبيين: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:٦٩].
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعل مراتبنا مع الصديقين، اللهم ارفع منازلنا مع النبيين والشهداء والصالحين، اللهم اجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصاً لوجهك الكريم وموجباً لرضوانك العظيم، نسألك علماً نافعاً وقلباً خاشعاً ودعاءً مسموعاً مستجاباً يا أرحم الراحمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.