للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الضابط في الترويح يوم العيد]

السؤال

ما هو الضابط في الترويح على الأهل والقرابة في أيام الأعياد والمناسبات؟

الجواب

إن الله تبارك وتعالى جعل يومي عيد الفطر والأضحى يومين من أيام الإسلام، وعيدين لأهل هذه الملّة، وجعلهما يوم فرحة وسرور، يوسِّع المسلم فيهما على نفسه وعلى أهله وولده، وعلى إخوانه المسلمين، حتى شرع الله زكاة الفطر من رمضان طهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين.

وقال عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس: (أغنوهم عن السؤال يوم العيد وليلته)، فهذا يدل على أن المقصود هو التوسعة؛ حتى يشهد الناس الفرح والسرور المأذون به شرعاً في هذا اليوم المبارك الذي أتموا فيه ركناً من أركان الدين، ووفقهم الله عز وجل لصيام هذا الشهر الذي فرض عليهم صيامه، وشكراً لله عز وجل على توفيقه لهم على قيام ما استطاعوا أن يقوموه من هذا الشهر المبارك، فالفرحة والسرور أول ما تنبغي أن تكون فرحة بنعمة الله، وأن تكون فرحة برحمة الله التي هي أحق أن يُفرح بها وأن يفرح فيها.

وهذه الفرحة تكون حينما يستشعر الإنسان كيف مضت عليه هذه الثلاثون يوماً؛ فيفرح أن الله وفقه لصيامه، ولو شاء الله جل جلاله لأصابه المرض فما استطاع أن يصوم، ولو شاء الله جل جلاله لأصابته فتنة في دينه فما استطاع أن يصوم، ولو شاء الله جل جلاله أن يبتليه في هذه العبادة بشيء يُفسد عليه أجره، ويُحبط عليه عمله، لما أعجز الله عن ذلك شيء.

إذاً: يُحس الإنسان أن الله وفقه لهذا الخير في ثلاثين يوم أو تسعة وعشرين يوماً؛ فيكون به في فرحة وغِبطة أن الله استكمل له شهره، فيسأل الله عز وجل ويحسن الظن بالله أن يكمل له أجره، والله لا يُضيع أجر من أحسن عملاً، فإذا به يصبح يوم العيد فرحاً مسروراً بنعمة الله؛ لأن الله يعطي الدنيا من أحب ومن كره، ولكن الدين والتوفيق للدين لا يُعطيه إلا لمن أحب، والله أعلم حيث يجعل هذه البركات والخير؛ لأن الإسلام كله بركة، ولذلك وصف الله القرآن بأنه مبارك، فمن التزم أوامره وسار على نهجه فقد أصاب بركة الإسلام وخيره وطُهره وعِفّته.

فإذا أصبح في يوم العيد، أصبح وقلبُه معلَّق بالله جل جلاله، مليء بالفرح والسرور، فهذا أول ما ينبغي، فإذا استقر هذا الفرح في القلب وجب عليه أن يشكر، فلهج لسانه بالذكر والشكر، فقال بملء قلبه ولسانه: الله أكبر {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:١٨٥].

هذه هي الفرحة الأولى التي دل عليها كتاب الله من فوق سبع سماوات، وهي أن يمتلئ قلبك بتوحيده والبراءة من الحول والقوة، وسؤال الله جل جلاله أن يجعل هذا الشهر في ميزان حسناتك فتلقاه أمامك، فإذا بالله جل جلاله يضاعف أجر الصوم، حتى قال الله جل جلاله في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).

فإذا شعر الإنسان أنه سيُثاب ويكافأ من الله؛ فرح فرحاً شديداً برحمة الله جل جلاله بعد فرحه بتوفيق الله، ولذلك شرع الله التكبير إكباراً له سبحانه، وشُرع التكبير بمجرد مغيب شمس آخر يوم من رمضان، فيقول المسلم: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد) شكراً لله وثناءً عليه وتمجيداً له وإعظاماً لنعمته.

فإذا شكر الله عز وجل وابتدأ بتوحيد الله؛ فتح الله عليه بركات ذلك اليوم وخيره وطُهره.

ومن أعظم الفرحة في يوم العيد: فرحة الاجتماع، فقد شرع الله عز وجل الاجتماع في هذا اليوم بصلاة العيد، حتى إن المرأة الحائض والمرأة ذات الخدر التي أُمر بسترها ولزومها لبيتها تُخرج إلى صلاة عيد الفطر، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تخرج العواتق وذوات الخدور والحيَّض، وقال: (أما الحيَّض فليعتزلن الصلاة وليشهدن الخير ودعوة المسلمين)، فيشهدن الخير في هذا اليوم المبارك.

فالضوابط كلها منحصرة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيتذكر المسلم وهو خارج لصلاة عيد الفطر كيف خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فإنه لم يخرج مختالاً ولا فخوراً، ولا أشراً ولا بطراً، ولا غروراً، إنما خرج لله وفي الله، خرج خاشعاً متخشِّعاً متذللاً لربه سبحانه وتعالى في ذلك اليوم، وخرج -كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها- حين بدا حاجب الشمس، فما وصل إلى المصلى إلا وقد ارتفعت الشمس، فابتدأ أولاً بالصلاة -عليه الصلاة والسلام- ثم بعد ذلك خطب فذكّر الناس ووعظهم، وأمر النساء بالصدقة، ثم أَذن للأمة بكل ما فيه توسعة وخير ما لم يكن من الحرام، أو فيه إسراف في المباح، وهذا هو شرع الله، فشرع الله هو الوسطية، ولما قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [الأعراف:٣١] نقلنا من تعذيب النفوس بالجوع والعطش والرهبنة، وقال: {وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:٣١]، ثم منعنا وحجزنا عن الغلو في ذلك، كما هو عمل أهل الترف.

فنحن نقول: افرحوا، فليس يوم العيد بيوم حزن ولا نكد ولا نحس؛ بل يفرح المسلم؛ ولكن يفرح برحمة الله عز وجل وبنعمته، ولا يغلو في فرحه إلى الوقوع في المحرمات.

لقد وسع عليه الصلاة والسلام، ومن دلائل توسيعه: أنه لما رأى أهل الحبشة وهم يلعبون بالسلاح في داخل المسجد فما أنكر عليهم ذلك، رغم أنه المسجد الذي شعَّت منه أنوار الرسالة، والذي تفجّرت فيه ينابيع الحكمة، وهو المسجد الذي دوَت في جنباته آيات التنزيل، وهو الذي كانت فيه مواقف الصدق -قولاً وعملاً واعتقاداً- من تلك الأمة المصطفاة المجتباة، هذا المسجد المطهّر المشرّف المكرّم الذي شرفه الله، وجعل الصلاة فيه بألف صلاة، وإذا بهم يلعبون فيه!! فانظر إلى عِزة الإسلام وإلى مرونته المنضبطة، وليست مرونة منفلتة، فيوم الفرحة يوم فرحة، ويوم الشدة يوم شدة، ويوم العبادة يوم عبادة.

أصبح عليه الصلاة والسلام يوم العيد والأحباش يعلبون بالحراب، وبالأمس كان البكاء والخشوع والخضوع والاستكانة والتهجد بين يدي الله جل جلاله يا لعظمة هذا الدين! دين مرن منضبط في مرونته، ليس بدين لعب، ولا دين عبادة برهبانية يجلس الإنسان فيها دهره كله وهو لازم معتكفه.

إنها أيام مضت، وعشر ليال انقضت، هي مدرسة لأولي العزائم الصادقة والنفوس الأبية المؤمنة المستجيبة لله جل جلاله، حتى إن قائدها وخيرها صلوات الله وسلامه عليه كان يدخل في المعتكف من أجل أن يتفرغ لعبادة ربه سبحانه وتعالى، ويُصبح يوم العيد وإذا بالناس يلعبون في المسجد: المسجد بالأمس مليء بالعبادة واليوم يلعبون فيه! فجاء عمر ليحصبهم، فنهاه وزجره، وقال: (هذا يوم عيدنا)، يوم عيدٍ للإسلام والمسلمين، ويوم فرحة لأولياء الله الذين ظمئت أحشاؤهم، وجاعت أمعاؤهم، وتفطّرت أقدامهم وهم منتصبون في جوف الليل بين يدي الله جل جلاله ركّعاً وسجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً.

فإذا بذلك المسجد يُصبح محلاً للفرح والسرور؛ لكنه فرح منضبط، فلا يستطيع أحد أن يتّهم هذا الدين بالتضييق، ولا يستطيع أحد أن يطعن في هذا الدين؛ وإذا برسول الأمة عندما رأى أهل الحبشة يأذن لهم، ولم ينقم عليهم ذلك.

ولا يقف الأمر عند هذا؛ بل عندما دخل بيته فإذا بحبه وزوجه عائشة رضي الله عنها وأرضاها تسأله أن تنظر إليهم، فما منعها من النظر، ولا قال لها: لا تنظري، فما منعها من شيء يدخل السرور عليها، وهذا بشرط أمن الفتنة؛ لأن الحبشة كانت الفتنة فيهم مأمونة، ولا ينبغي لأحد أن يقول: يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجال، ويستدل بهذا الحديث؛ لأن قوله ذلك يصبح غلواً في الفرح لتفرح المرأة ولكن بشرط ألا يكون هذا الفرح فتنة للأهل والولد؛ لأن في ذلك مخالفة لشرع الله، وهذه الحواجز والقيود يُقصد بها صلاح الدين والدنيا والآخرة.

فقامت تنظر، وما قال لها: أنا رسول الأمة، وانتظري حتى يأتي أخوك ويقف لك، لم يقل لها ذلك، بل وقف عليه الصلاة والسلام على قدميه رسول الأمة صلى الله عليه وسلم الذي وقف بين يدي الله جل جلاله راكعاً ساجداً يبتغي فضلاً من ربه ورضواناً، ويشتري رحمة ربه بإدخال السرور على أهله بالوقوف على قدميه الشريفتين، وقف عليه الصلاة والسلام، ووقفت من ورائه، تقول رضي الله عنها: (وأنا أنظر إليهم من ورائه)، وهذه هي الحشمة والعفاف، فقد كانت رضي الله عنها على حشمة وعفاف، فكانت تفرح أيضاً، ويدل هذا على أن المرأة تفرح لكن بشرط أن تكون محتشمة، عفيفة، رزاناً، حصاناً، متحفِّظة.

فقالت رضي الله عنها: (وأنا أنظر إليهم من خلفه)، وما قالت: أنظر من خلف الباب، بل من وراء النبي صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ فإن المرأة المؤمنة بدلاً من أن تذهب إلى الفرح بغيبة محرمها، عليها أن تبحث عن محرمها حتى يصونها ويحفظها، وهذه أم المؤمنين رضي الله عنها تحرِص على ذلك.

ثم تقول رضي الله عنها: (فيقول لي: هل فرغت؟ فأقول: لا بعد.

فيقول: هل فرغت؟ فأقول: لا بعد)، ثم تقول رضي الله عنها وأرضاها: (فاقدروا قدر الصبية الجهلاء)، ومعناه: أنها أخذت -كما يقولون- راحتها واستجمام قلبها، وفي هذا دليل على أمور: أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لها في الفرحة، فدل هذا على أن من السنة في يوم العيد أن تُحدِث فرحة لأهلك، ومن الفرحة: أن تأخذهم إلى مكان تتسع وتنشرح فيه صدورهم، والمؤمن دائماً يكون عاقلاً، وقد كان من مشايخنا وأهل الفضل والعلماء في بعض الأحيان يدخلون السرور حتى بطريق غير مباشر، فالزوجة إذا كانت تستحي من زوجها وتألف ولدها، فيأمر ولدها أن يأخذها، فعليك دائماً أن تحرص على إدخال السرور عليهم؛ لأنك إذا وسعت على أهلك وسع الله عليك، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، والنبي صلى الله عليه وسلم أذن بالتوسعة على بيوت المسلمين حينما وقف عليه الصلاة والسلام.

ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن بالتوسعة بفضول النظر؛ لأن اللعب من الفضول، والنظر إلى اللعب من الفضول فأذن بذلك؛ لكنه بشرط أمن الفتنة والمحافظة.

ثالثاً: وهذه وقفة تحتاج إلى أن نتأملها ف

<<  <  ج:
ص:  >  >>