[حكم الجمع بين الصلاتين]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: يجوز الجمع بين الظهرين وبين العشاءين في وقت إحداهما].
هذا الفصل يتعلق بمسألة الجمع بين الصلاتين، والجمع بين الصلاتين رخصة رخص الله بها لعباده، تقع في الحضر وتقع في السفر، فقد يجمع الإنسان بين الصلاتين في سفره، وقد يجمع بين الصلاتين في حال حضره.
والجمع بين الصلاتين فيه خلاف مشهور بين العلماء: فمن أهل العلم من قال: يجوز الجمع مطلقاً.
وهذا مذهب الشافعية والحنابلة من حيث الجملة.
ومنهم من يقول: لا يجوز الجمع مطلقاً إلا في حالة الجمع في النسك، وذلك بتقديم الظهر مع العصر بعرفة، وتأخير المغرب مع العشاء بمزدلفة.
وهذا مذهب الحنفية رحمة الله عليهم.
والقول الثالث: أن الجمع يجوز للمسافر إذا جدّ به السير.
وهو مذهب الإمام مالك رحمة الله عليه، ويختاره بعض المحققين كـ ابن القيم وغيره رحمة الله على الجميع، فيقولون: تجمع إذا جدّ بك السير، فلو كنت تريد أن تسافر من مكة إلى المدينة، وخرجت من مكة قبل أن يؤذن الظهر، وأذن الظهر وأنت في الطريق تريد أن تكسب الوقت فلم تنزل للصلاة، حيث تريد أن تدرك حاجة بالمدينة، فحينئذٍ يقولون: يجوز لك أن تؤخر الظهر والعصر إلى آخر وقت العصر؛ لأنه جدّ بك السير وأنت محتاج إلى الوقت فتجمع.
وهكذا إذا كان جمع تقديم، فلو خرجت من مكة ونزلت بقرية بين مكة والمدينة، ثم أردت أن تمشي بعد دخول وقت الظهر وتريد أن تكسب الوقت لوصول المدينة، فحينئذٍ تجمع في هذه القرية بين الظهر والعصر جمع تقديم، فهذا هو الذي يعبر عنه العلماء بقولهم: إذا جد به السر.
أي: إذا احتاج إلى الجمع لضرورة وحاجة، وهي كسب الوقت، فحينئذٍ يقولون: يجوز الجمع.
أما إذا لم تكن هناك حاجة أن تجمع وليس هناك جدّ سير فإنك تبقى على الأصل، ولا يجوز لك الجمع.
فهذا بالنسبة لمذهب من يقول بالتفصيل.
هناك مذاهب أخرى ضعيفة تفصّل في الجمع بين الصلاتين تفصيلات لا دليل لها من النصوص.
وهذه أشهر الأقوال في مسألة الجمع بين الصلاتين.
وهناك قول يقول: يجوز جمع التأخير ولا يجوز جمع التقديم.
فيرون أنه يرخص للإنسان أن يجمع جمع تأخير، ولا يرون له أن يجمع جمع التقديم.
والذي يظهر -والعلم عند الله- مشروعية الجمع، سواءٌ أكان جمع تقديم أم جمع تأخير، والسنة في ذلك صحيحة وثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جمع -بأبي وأمي عليه الصلاة والسلام- بين الظهر والعصر، وبين العشاءين: المغرب والعشاء، جمع جمع تقديم وجمع جمع تأخير.
أما الحديث في مسلم فإنه أطلق الجمع، وهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين).
وأما بالنسبة لتفصيل الجمع فحديث معاذ ظاهر في ذلك، وقد حسنه غير واحد من الأئمة كـ الترمذي وغيره، فإنه قال: (كان إذا ارتحل -أي: عليه الصلاة والسلام- قبل أن تزول الشمس أخر الظهر فصلاها مع العصر، وإذا ارتحل قبل أن تغرب الشمس أخر المغرب إلى وقت العشاء فصلاهما معاً، وكان إذا ارتحل بعد أن تزول الشمس قدم العصر مع الظهر فصلاهما معاً، وإذا ارتحل بعد أن تغيب الشمس قدم العشاء إلى وقت المغرب فصلاهما معاً)، وهذا يدل على مشروعية جمع التقديم وعلى مشروعية جمع التأخير.
وهذا القول الذي يقول بمشروعية الجمع مذهب الجمهور، وذكرنا أن هذا الحديث أصله في صحيح مسلم واضح، فيبقى الإشكال عندنا في القول الذي يقول: لا يجمع إلا إذا جدّ به السير، خاصة وأن الرواية عن معاذ: (كان إذا جدّ به السير)، وهي متكلم فيها، قالوا: ثم إن هذا يقويه النظر، فإن الأصل أن الصلاة تصلى في وقتها، والجمع خارج عن الأصل، فلا يجوز إلا عند وجود الحاجة، فيقولون: إذا جدّ به السير جمع.
ويجاب عن هذا القول بحديث تبوك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين ولم يجدّ به سير؛ لأنه كان في خيمته وخبائه عليه الصلاة والسلام، وهذا يؤكد أن الجمع لا يشترط فيه جدّ السير، وبناء على ذلك يترجح قول من قال من الأئمة رحمة الله عليهم: إن الجمع بين الصلاتين مشروع، سواءٌ أكان يحتاجه لجدّ سير أم لغيره، وسواءٌ أقدم أم أخر، فلا حرج عليه في ذلك كله.
وقوله: [يجوز الجمع بين الظهرين وبين العشاءين].
الظهران: هما الظهر والعصر، كما يقال: العمران والقمران.
فكل ذلك من باب التغليب، والعشاءان: هما المغرب والعشاء.
وقوله: [يجوز] يدل على أنه ليس بواجب.