[وجوب العمل بشروط الواقف]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ويجب العمل بشرط الواقف في جمعٍ وتقديم وضد، ذلك واعتبار وصفٍ وعدمه، وترتيب ونظر وغير ذلك] قوله: (ويجب العمل بشرط الواقف) أي يجب على من تولى نظارة الوقف أن يعمل بالشرط الذي اشترطه المُوقف.
فالواقف إذا اشترط شروطاً، أو وضع أمارات وعلامات معينة للاستحقاق في وقفيته؛ فالواجب العمل بذلك، ولا يجوز إخراج هذه الشروط ولا العبث بها، وذلك بإجماع العلماء رحمهم الله؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لما كتب وصيته وفيها وقفيته لأرضه التي بخيبر جعل النظارة لأم المؤمنين حفصة رضي الله عنها وأرضاها، ثم من بعدها للأرشد والعدل من الذرية، وجعل شروطاً في صرف الوقف وعُمل بها، وجرى العمل عند أئمة الإسلام وقضاة المسلمين على أن شروط الواقف ينبغي العمل بها، ولا يجوز تعطيلها، ولا تبديلها، ولا تغييرها، ولا تحريفها.
ولذلك قال المصنف: (يجب) فعبر بالوجوب الذي يدل على إثم من خالفه، فلا يجوز أن يُتصرف في هذه الشروط، إلا إذا قضى القاضي في أحوال مستثناة سيأتي إن شاء الله بيانها، أما من حيث الأصل فالواجب العمل بهذه الشروط وتنفيذها، والشروط تختلف من حيث الأصل، فالذي يُوقِفُ الأرض أو غيرها قد يشترط النظارة لشخص معين، وقد يشترط جهة معينة يُصرَف إليها الوقف، وقد يشترط في هذا الصرف صفات معينة.
ثم إذا جعل الوقف لطائفة أو لجماعة، فإما أن يُعمم وإما أن يخصص، وإما أن يُطلق، وإما أن يقيد، ثم التقييد تارة يكون بالترتيب فيقول مثلا: ًعلى أولادي، ثم أولاد أولادي، ثم أولاد أولاد أولادي إلى أن ينقطع نسلي، أو إلى أن لا يبقى أحد من ذريتي، فهذا مستغرق لذريته، وربما يُخرج هذا الوقف بالشرط عن ذريته إلى جهة أخرى فيقول: هذا الوقف لأولادي ثم أولاد أولادي، فإذا ماتوا فإلى الفقراء والمساكين من بعدهم، فيجعل الوقف بالنسبة لذرِّيته للبطن الأول والثاني، ولا يجعل للثالث استحقاقاً.
وقد يجعل شرطاً من جهة الصرف، فيخصّه ببعض الذرِّية دون بعض، فيخصَّه بالذكور دون الإناث، أو العكس فيجعله للإناث دون الذكور يقول: داري هذه وقف على بناتي للمطلقات منهن، وهذا أثر عن الزبير ويحكى عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه أوقف داره على المطلقات ومن كانت أرملة من ذريته.
فالشاهد من هذا أن شرط الوقف معمولٌ به، والإجماع منعقد على أنه يجب على الناظر أن ينفِّذ هذه الشروط، ويجب على القاضي أن يُلزم بها الناظر، وإذا ظهر من الناظر إخلالٌ بهذه الشروط أو تغييرٌ لها؛ فإن القاضي يُلزمه شرعاً بالعمل بهذه الشروط إلا في الأحوال المستثناة.
ويجب على من ولي الوقف أن يعمل بشرط الواقف تعميماً وتخصيصاً، وتقييداً وإطلاقاً، وترتيباً على الصفات، وعلى الأحوال، كل ذلك يجب أن يُتقيد به وأن لا يُغيَّر ولا يُبدَّل.
قوله: [في جمع وتقديم] الجمع كأن يقول: أولادي، وأولاد أولادي، فإذا قال: أولادي وأولاد أولادي، فمذهب طائفة من العلماء أن البطن الأول والثاني يستوون، مثلاً لو كان له ابنان زيدٌ وعمرو، فتوفي زيد وبقي عمرو، فذرية زيد تستحق مع وجود عمهم؛ لأن الوقفية مشركة حيث جمع بين البطنين الأول والثاني.
لكن إذا قال: على أولادي ثم أولاد أولادي، فثم هنا فرّق بها بين البطن الأول والبطن الثاني، وحينئذٍ ينبغي أن يُركَّز على الشرط الذي اشترطه، ولا يجوز أن يأخذ أحداً من الدرجة الثانية مع وجود أحد من الدرجة التي قبلها.
وهكذا لو جمع وقال: على أولادي.
فهذا جمع يشمل الذكور والإناث والخناثى، حتى ولو كان فيهم خناثى فإنهم يستحقون من الوقف لأنهم أولاد له، والله سمى الولد للذكر والأنثى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:١١]، فالولد في لغة العرب يشمل الذكر والأنثى، فجمع بين الذكر والأنثى فقال: على أولادي، لكن ممكن أن يقول: هذه الدار وقف على بناتي، فحينئذٍ فرَّق بين الذكر والأنثى، فجعل الاستحقاق للأنثى دون الذكر، فله أن يجمع وله أن يفرِّق.
قوله: (وتقديم): أي: كأن يقول على أولادي ثم أولاد أولادي، هذا ترتيب، وإذا جعل الوقف على الترتيب وجب التقيُّد بهذا الترتيب، فلا يُعطَى المؤخر مع وجود المقدم، أو مع وجود من هو أعلى منه مرتبة.
قوله: [وضد ذلك] أي: ضد الجمع التفريق.
قوله: [واعتبار وصف] أي: لو قال مثلاً: للمريض من أولادي، أو الفقير، أو المطلقة من بناتي، أو قال على الفقراء على المساكين على طلبة العلم على الغرباء، هذه كلها أوصاف ينبغي أن يتقيد بها، ولا يجوز أن يغيرها الناظر، بل يصرف على هذا القيد الذي ذكره الواقف.
قوله: [وعدمه] أي: عدم التقييد، كما لو قال: على أولادي، ولم يقيد لا بذكر ولا بأنثى.
قوله: [وترتيب] أي: كذلك إذا لم يرتب فإنه في هذه الحالة يبقى الجميع على حد سواء، فإذا قال: أوقفت هذه المزرعة على أن تكون غلتها لأولادي والمساكين؛ فحينئذٍ جمع بين أولاده والمساكين، ولو قال: على أولادي ثم المساكين من بعدهم، فحينئذ لا نعطي المساكين إلا إذا عُدم أولاده.
فإذاً نعمل بالجمع والتفريق، ونعمل أيضاً بالأوصاف وعدمها، فإذا جاءت خالية من الأوصاف فإننا نبقي الوقف على عمومه وشموله.
فالمقصود من هذا أنه يلزم الناظر أن يتقيد بشرط الواقف على الصفة التي ذكرها في وقفيته.
قوله: [ونظرٍ] أي: هكذا النظارة، لو قال: نظارة هذا الوقف لي، فهذا شرط يستحقه وتكون له النظارة، فإذا قال: ثم للأرشد فالأرشد من أولادي، فحينئذٍ تكون للأرشد، أو قال: للأعلم من ذريتي، فحينئذ تكون للأعلم، والدليل على ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كتب كتابه في الوقف، جعل النظارة لابنته حفصة رضي الله عنها وأرضاها ثم للأرشد من ذريته.
فهذا يدل على أن من حق الواقف أن يخص النظارة، وأن يجعلها لبعض الموقوف عليهم، سواءً كانوا من الموقوف عليهم أو كانوا من غيرهم، فقد يقول: هذا البيت وقف على أولادي والناظر عمهم فلان، وقد يجعل رجلاً أجنبياً فيقول: النظارة لفلان -وهو غريب وليس بقريب- ولذريته من بعده، فحينئذٍ تكون النظارة على الشرط الذي ذكره الواقف.
قوله: [وغير ذلك] أي: (وغير ذلك) من الأمور التي يذكرها الواقف؛ لأنه إذا اشترط فله على ربه ما اشترط، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـ ضباعة رضي الله عنها: (أهلِّي واشترطي وقولي: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني، فإن لك على ربك ما اشترطت).
وهذا دليل على أن العبد إذا اشترط على ربه، وكان الشرط شرعياً فإن له ذلك الشرط، فإذا جعل الناظر شروطاً في الوقف فإنه ينبغي التقيُّد بها، مثل أن يقسم الوقف أثلاثاً، ويقول هذا الثلث أشترط أن يكون للقرابة بشرط أن يكونوا بحاجة، أو يكونوا أيتاماً، أو تكون أرملة من النساء، ونحو ذلك من الأمور التي يضيفها الواقف.