[التعزير بالجلد]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله: [ولا يزاد في التعزير على عشر جلدات]: ذكر رحمه الله هذه الجملة، والتي هي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متضمن النهي عن الزيادة على عشرة أسواط إلا في حدٍ من حدود الله عز وجل، وهو حديث أبي بردة رضي الله عنه وأرضاه في الصحيح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا اختلف العلماء رحمهم الله في التعزير، بعد أن اتفقوا على أنه لا حد لأقله، فاتفق العلماء رحمهم الله على أنه ليس في التعزير حد أقلي لا يجوز للإمام أن ينقص عنه إذا عزر، خلافاً لبعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله الذين قالوا: أقل الجلد ثلاثة أسواط، فلا يعزر بأقل من ثلاثة أسواط، والصحيح: أنه لم يثبت دليل في الكتاب والسنة يدل على أن التعزير له حد لا يجوز النقصان منه.
ومن هنا فالأمر راجع إلى القاضي أو الحاكم أو السلطان، فإذا رأى أن يعزر بالقليل عزر، وإذا رأى أن يعزر بالكثير عزر؛ لأن المقصود زجر الناس، وحملهم على تعظيم حدود الله عز وجل وحرماته، وكذلك كف بعضهم عن بعض، وهذا يختلف بحسب اختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة.
وظاهر الحديث يدل على أنه لا يجلد فوق عشرة أسواط، وقد اختلف في هذا الحديث من ناحية السند، ففيه أخذ وعطاء بين العلماء رحمهم الله، وقد استقر العمل على ثبوته عند الأئمة، وأجابوا عن بعض ما ورد عليه، ونظراً لوجود بعض الكلام في السند كان معارضاً بالأصل.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في تأويل هذا الحديث: فمنهم من يقول: لا يجوز أن يعزر أحد بضربه فوق عشرة أسواط، فيضرب العشرة ويضرب التسعة وما دون ذلك، أما ما زاد على العشرة فلا يجوز، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، وقال به إسحاق بن راهويه من أهل الحديث، وأشار المصنف رحمه الله إلى هذا القول.
وذهب الجمهور إلى أن المراد بالحديث ألا يبلغ الحد في عقوبة وتعزير من وقع فيما دون الحد، فكل حدٍ من حدود الله نظر في تعزير الجرائم التي هي من جنسه إلى قدره، فمثلاً: لو أنه تعاطى أمراً دون الحد، كأن يستمتع بامرأة بما لا يحصل به الزنا، قالوا: إنه يعزر ولا يبلغ في التعزير حد الزنا، وهو مائة جلدة إذا كان غير محصن، واستدلوا بآثار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها الأثر عن النعمان بن بشير رضي الله عنه وعن أبيه: أنه جلد الرجل الذي أذنت له زوجته أن يطأ جاريتها مائة جلدة.
وقد كان الأصل يقتضي أنه لو كان زانياً أن يرجم.
وقالوا أيضاً: إنه إذا تعاطى أمراً من الشراب وفيه إخلال، ولا يبلغ حد المسكر؛ فإنه يعزر إذا كان من العبيد بتسع عشرة جلدة فما دون، وإذا كان من الأحرار وقلنا: إن الحد هو أربعون، فإنه يعزر بتسعٍ وثلاثين فما دون، فينظرون في كل جريمة إلى جنسها، فإن كانت من الزنا لم يوصل في ضربه إلى مائة جلدة إذا كان من الأحرار، ولا يوصل إلى خمسين إذا كان من العبيد، وهذا القول للجمهور رحمهم الله، وهناك تفصيل داخل المذاهب؛ لكن الأصل على هذا.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حدٍ من حدود الله) فقد أجابوا عن هذا الحديث، واختلفت أجوبتهم: فمنهم من يقول: إن هذا الحديث منسوخ، وأشكل على هذا أن النسخ لا يثبت بالاحتمال.
ومنهم من قال: إن هذا الحديث المراد به التأديب في غير الحدود، ومرادهم بذلك تأديب الرجل لزوجته، وتأديب الرجل لولده، فلا يضرب فوق عشرة أسواط، وقالوا: قوله: (إلا في حدٍ من حدود الله) المراد به: المعاصي التي تكون عند السلطان وعند القضاة، فخرجوا الحديث على هذا، وهو من أقوى الأوجه عندهم، فأخرجوا الحديث عن كونه متعلقاً بالقضاة وبالإمام إذا عزر، وأن المراد به التأديب الذي هو دون التعزير، ويكون قوله: (إلا في حدٍ من حدود الله) كل معصية فهي حدٌ من حدود الله، ولذلك نهى الله عز وجل عن معصيته وقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:٢٢٩] وبيّن أن الطلاق في الطهر حد من حدود الله عز وجل، وأن الطلاق في الحيض اعتداء على حد من حدود الله عز وجل، ولذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن المعاصي التي تكون عند السلطان من حدود الله عز وجل، سواء كانت متعلقة بالمصلحة العامة، أو كانت متعلقة بمصالح خاصة، كمن يسب الناس، أو يشتم الناس، أو يؤذيهم في مصالحهم ومرافقهم العامة، فيعطلها؛ فإنه قد وقع في حد من حدود الله، وحينئذ فيشرع للسلطان أن يعزره بما يراه رادعاً له ولغيره أن يفعل كفعله.
وهذا من أقوى الوجوه والأجوبة؛ أن المراد بالحد مطلق المعصية، وأن المراد به التأديب فيما دون العقوبات التي عند القضاة؛ لأنها -أي: المعاصي- عند القضاة من حدود الله عز وجل.