[السكران]
قوله: (وسكران).
السكر تقدم معنا بيانه وبيان بعض مسائله في طلاق السكران، وبينّا كلام العلماء رحمهم الله في مؤاخذة السكران.
وقد دلت نصوص الشريعة من حيث الأصل على أن السكران في حكم المجنون، وهذا له أدلة، لكن من حيث الأصل فالسكر ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون السكر على وجه يعذر فيه الإنسان، كأن يشرب خمراً يظنه عصيراً، أو مثلاً دس له الخمر بشيء لا يعرفه، أو غلب على أمره وخدر، كما هو الحال الموجود الآن في المخدرات أعاذنا الله منها، ومثله المخدر في العمليات الجراحية إذا أعطي مادة التخدير، فإذا كان سكره على وجه يعذر به شرعاً فاختل عقله، وحصل عنده تغييب، فحلف ووقع منه إيلاء أو طلاق أو عتق، فهذا على وجه يعذر به شرعاً.
والإجماع منعقد على أنه لا يؤاخذ، وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد من العلماء؛ منهم الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني، نقل الإجماع على أن من سكر وكان سكره على وجه يعذر به شرعاً، فإنه في هذه الحالة لو طلق لا ينجز طلاقه، ولو أعتق لا يعتق عليه عبده، ولو حصل منه إيلاء لا ينعقد إيلاؤه؛ لأن سكره على وجه يعذر به شرعاً.
القسم الثاني: أن يكون سكره على وجه لا يعذر به شرعاً؛ كمن شرب الخمر عامداً متعمداً، فقال أثناء سكره يخاطب زوجته: والله لا أجامعك خمسة أشهر، أو والله لا أجامعك هذا العام أو هذه السنة.
فقال بعض العلماء: السكران غير مكلف، فلا يؤاخذ بإيلائه، وهذا مذهب الظاهرية وطائفة من أهل العلم رحمهم الله، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال جمهور العلماء: ينعقد إيلاؤه.
والصحيح: ما ذهب إليه أصحاب القول الأول؛ أن السكران لا يصح إيلاؤه؛ بدليل الأثر والنظر: أما دليل الأثر وهو كتاب الله عز وجل فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:٤٣].
ووجه الدلالة: بيّن الله في هذه الآية الكريمة أن السكران لا يعلم ما يقول، ومن كان لا يعلم ما يقول فإنه كالمجنون لا يؤاخذ على قوله، فهذه الآية تدل على أن السكران لا يعلم ما يقول، وأنه في الأصل غير مؤاخذ بقوله.
أما دليل السنة فما ثبت في الصحيح: أن حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه شرب الخمر حينما كانت مباحة في أول الإسلام، واعتدى على شارف لـ علي رضي الله عنه كان قد هيأه مهراً لبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى علي هذه المصيبة التي وقعت في مهره انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكى إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمزة، ولم يكن يعلم أن حمزة بحال السكر والشراب، فدخل على حمزة وعاتبه، فرفع حمزة رضي الله عنه وأرضاه رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما أنتم إلا عبيد لآبائي.
فعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه في حال السكر، فرجع القهقرى ولم يؤاخذه.
فهذه الكلمة لو قالها أحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكفره بالإجماع، ومع ذلك لم يؤاخذ الله عز وجل ولا رسوله عليه الصلاة والسلام حمزة حينما تكلم بها في حال السكر؛ فدل على أن السكران لا يؤاخذ على قوله.
وكذلك أيضاً دل دليل النظر على أن السكران لا يؤاخذ، فلا يصح إيلاء السكران كما لا يصح إيلاء المجنون بجامع كون كل منهما فاقد لإدراكه وعقله.
فكما أن المجنون بالإجماع لو قال لامرأته: والله لا أجامعك سنة، فإنه لا ينعقد إيلاؤه؛ لأنه مجنون، ولم يدرك ما يقول، فكذلك السكران لا ينعقد إيلاؤه، ونقول: لا يقع إيلاء السكران كما لا يقع إيلاء المجنون، بجامع كون كل واحد منهما فاقداً لشعوره وإدراكه وتمييزه.
وعلى كل حال: القول بعدم صحة إيلاء السكران هو الأشبه والأقوى إن شاء الله تعالى، فلا يصح الإيلاء من السكران كما لا يصح من المجنون.