[حكم بيع الأوقاف]
قال المصنف رحمه الله: [ولا يباع إلا أن تتعطل منافعه] قوله رحمه الله: (ولا يباع) أي: لا يجوز بيع الوقف، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عمر رضي الله عنه: (غير أنه لا يباع)، وهذا الحديث نصٌ صريح في تحريم بيع الوقف، وأن الوقف مؤبّد لا يجوز لأحدٍ أن يبيعه بعد صدور الوقفية، لكن إذا وُجدت الحاجة والضرورة فهذه مسألة مستثناه، ولا تعارض هذا الأصل.
ولذلك كالميتة فإنها محرمة، لكن إذا وُجدت الضرورة حلّت، وإباحتها وحِلها عند الضرورة لا يقتضي أنها مباحة في الأصل.
فقوله: (لا يباع) أي: لا يجوز بيعه، فلا يجوز بيع الأوقاف بإجماع العلماء رحمهم الله كما جاء في الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غير أنه لا يباع)، وفي رواية: (ولا يبتاع)، أي لا تبيعه ولا تشتريه، إلا إذا قضى القاضي بجواز بيعه.
وما دمنا أننا قد عرفنا أن الأثر قد دل على أن الوقف لا يُباع، فما هو الدليل من جهة النظر ومن جهة الأصول؟ والجواب أن الوقف إذا حكمنا بصحته، فإنه تخلو يد الواقف عنه، أي: تزول ملكية الواقف له، والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غير أنه لا يباع ولا ويوهب ولا يورث)، فجعل تصرفات المالك لاغية، فمعناه أنه لا يملك الوقف، وهذا مجمع عليه.
فإذا اثبت أن ملكية الواقف قد زالت عن الوقف؛ فالبيع يشترط فيه الملكية، ولا يمكن أن يبيع شيئاً لا يملكه، وأنت قد استدللت بالسنة على أن الواقف قد خلت يده من الملكية وعريت، وإذا كان الأمر كذلك؛ فإنه لا يصح أن يبيع الوقف، لكن يبيعه القاضي، وهذا الذي جعل العلماء دائماً يقولون: إن الأوقاف لا يصح بيعها إلا بقضاء القاضي؛ لأنها ليست مملكة لشخص بعينه بحيث يكون هو الذي يملك، فالواقف قد أخرجها عن ملكيته.
ولذلك يقولون: تخرج الملكية مؤبداً، أي: تخرج خروجاً مؤبداً، فلا يملك أن ترجع إليه بعد فترة، ولذلك ذكرنا أن من قال: أوقفت داري هذه سنة، أنه لا يصح؛ لأنه سيعيد ملكيتها إليه، والوقف يُخلي اليد عن الملكية ويعريها، فالسنة قاضية بهذا، فإذا أُثبت أن السنة أخلت يد الواقف عن ملكية الوقف، فإنه لا يصح أن يبيعه؛ لأن شرط صحة البيع أن يملك البائع التصرف في البيع بملك أو ولاية.
والسنة دلت على أن الواقف لا يملك، فصار بيع الوقف من الواقف دون وجه شرعي بيعاً باطلاً؛ لأنه بيعٌ لما لا يملكه، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث حكيم بن حزام في السنن: (لا تبع ما ليس عندك).
وعلى هذا قالوا: لا بد من أن يقضي القاضي؛ لأن القاضي جُعل في الشرع للنظر في الحقوق والأموال التي لا يُعرف مالكها، فهو يتصرف بولاية عامة؛ لأن ولي الأمر فوض له النظر في مثل ذلك، فإذا كان وقفاً لا مالك له، فإنه حينئذٍ يقضي بجواز بيعه بعد أن تتوفر الأسباب الداعية للحكم ببيعه.
وقد قال المصنف رحمه الله: [ولا يجوز بيعه إلا أن تتعطل منافعه] (إلا) استثناء، والاستثناء: إخراجٌ لبعض ما يتناوله اللفظ، فإذا كان الوقف لا يجوز بيعه؛ فهناك أحوالٌ مستثناة يجوز فيها بيع الوقف، فقال رحمه الله: (إلا أن تتعطل منافعه) أي: يجوز بيع الوقف بشرط أن تتعطل المنافع، والمنافع: جمع منفعة، ومنافع الوقف مثل: السكنى فيه، ومثل: الثمرة من البستان.
فتتعطل منفعة السكنى بأن تتهدم العمارة، وتتهدم الغرف الموقوفة للسكن بحيث تصبح غير صالحة للسكن ولا يمكن سكناها، أو تتعطل منافعها بأن يغرق المكان، ولا يمكن لأحد أن يسكن فيه، فحينئذٍ تعطلت المنافع، ولا يمكن أن ينتفع الموقوف عليه بهذا الوقف.
وتتعطل منافع المزرعة بأن ينضب الماء، أي: يكون فيها ماء ثم تجف عيونها أو آبارها، أو تنقطع الموارد التي تغذيها بالماء، فيموت النخل، فحينئذٍ تعطلت منفعة البستان.
فإذا تعطلت منافع الوقف دون أن يكون هناك تقصير أو تفريط من قبل الناظر، فالناظر للوقف مسئولٌ أمام الله عز وجل عن رعاية مصالح الوقف والنظر فيه، وكل هذا أمانة في عنقه يُحاسب عنها بين يدي الله عز وجل.
فالواجب عليه أن يبذل كل الأسباب لبقاء الوقف، وأن ينصح للوقف، وتكون نصيحته للواقف، خاصة إذا سبّله على وجوه الخير، وكان ميّتاً ينتظر الأجر والثواب، وينصح للموقوف عليهم كالفقراء والضعفاء والأيتام والأرامل والمحتاجين، وبالأخص إذا كانوا قرابة فإنهم أحوج إلى حصول هذه المنافع من الوقف.
فإذا تعطّلت المنافع دون تفريطٍ منه؛ اشتكى إلى القاضي، ورفع الأمر إليه أن هذا الوقف قد تعطلت منافعه، ويُخرج القاضي أناساً من أهل الخبرة، وذوي النظر للتأكد من صحة دعوى الناظر.
فإذا ثبت أن الوقف قد تعطلت منافعه، فيَنظُر: هل بالإمكان أن يتنازل عن جزء من هذا الوقف في مكان، بحيث يبيع قطعة منه ويُبقي الباقي وقفاً ويصلح به الباقي؛ فحينئذٍ يفعل، لأن بيع الجزء مقدمٌ على بيع الكل، وبيع الأقل مقدم على بيع الأكثر.
فالأصل عدم جواز بيع الوقف، فإذا أمكن أن يُبقي الوقف في مكان، كأن تجف عيون البستان، ولكن يقول أهل الخبرة: إن هذه الجهة غزيرة بالمياه، وهي غير الجهة التي كانت فيها آبار الوقف الأولى، وتحتاج إلى حفر آبار، والوقف معطلة منافعه، فيحتاج أن يبيع قطعة من الوقف من أجل أن يحفر بثمنها آباراً، ويغذِّي بها ما بقي من البستان، فيفعل ذلك، ولا يجوز أن يحكم مباشرة بالبيع؛ لأن ما جاز للضرورة والحاجة يُقدّر بقدرها.
فإذا أردنا أن نبيع الوقف ننظر: هل المصالح التي نريد تحقيقها وعَود الوقف ذا منفعة تتحقق ببيع الكل أو ببيع الجزء، فإن كان ببيع الجزء وجب على القاضي أن يحكم ببيع الجزء الذي تتحقق به المصلحة، وتندرئ به المفسدة، ولا يقضي القاضي ولا يفتي المفتي بجواز بيع الكل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن بيعه فقال: (لا يباع)، فإذاً لا نبيع إلا إذا وجدت الحاجة، فلما كانت الحاجة يمكن تحقيقها ببيع الجزء لم نستبح بيع باقيه؛ لأنه باق على الأصل الموجب للتحريم.
وهذا أمر في الحقيقة مهم جداً، ولا يتساهل في كل دعوى من الناظر أنه يباع الوقف.
المسألة الثانية: إذا ادعى الناظر أنه يريد بيع الوقف؛ لأن المنفعة قليلة في هذا المكان، كثيرة في مكان آخر، فإذا كانت دعواه على هذا الوجه فإنه لا تُلبى حاجته، ولا يُجاب إلى طلبه ما دام الوقف له منفعة، ولو كانت المنفعة قليلة في زمان، فقد يأتي زمان تستعيد فيه هذه الأرض الموقوفة قيمتها ومنفعتها، فلا يجوز أن تباع؛ لأنه لو فُتح هذا الباب لتلاعب الناس في الأوقاف في كل زمان.
من أمثلة ذلك: لو قلنا إن قلة المنفعة مثلاً كانت عمائر تؤجر بمليون فأصبحت تؤجر بمائة ألف، لكن المائة ألف يمكن تحقيق الصدقات بها، وتطبيق الأمور التي اشترطها الواقف وذكرها، فنزلت المصلحة إلى العُشر، وما دام الوقف باقياً، ونزل إلى العشر فإنا نبقيه على حاله، ولا نفتي بجواز بيعه، ولا يقضي القاضي بجواز بيعه لغيره؛ لأنه لو فُتح هذا الباب؛ فيمكن أن يأتي شخص ويقول: إني ناظر على وقف فلان، أو مزرعة فلان، والتمر لا يأكله الناس اليوم، فأُريد -مثلاً- أن أُغير هذا الوقف بوقفٍ آخر لأن المنفعة أكثر؛ فليس للناظر أن يتدخل في مثل هذه المسائل، وليس لأحد أن يغير الوقف.
فإنه قد تكون المزرعة في زمان ليست فيها تلك المنفعة العظيمة، ولكنها في أغلب الأزمنة ذات منفعة، فلا يجوز العبث في الأوقاف ببيعها إلا عند الضرورة الحقيقية، ولا يجارى فيها بأهواء الناس، ولا بدعواهم، بل الواجب أن يُقتصر في هذه المسألة على الضرورة وعلى الحاجة، وأن يتحقق القاضي أن مصالح الوقف قد تعطلت، وأن هذا التعطُّل لا دخل للناظر فيه.
فإن كان له دخل بأن تلاعب في الوقف فعطل منافعه، أو فعل أشياء أو أضر بأشياء من أجل أن يدّعي أن الوقف قد تعطلت منافعه؛ فإنه يغرم ويلزمه ضمانها، ويعاد الوقف إلى حالته التي كان عليها، لأن يده على هذه الحال يد جناية.
فالمقصود أنه لا يحكم ولا يفتى ولا يقضى بجواز بيع الأوقاف إلا عند الضرورة والحاجة على التفصيل الذي ذكرناه.
قال المصنف رحمه الله: [ويصرف ثمنه في مثله] أي: إذا حُكِم بجواز بيعه، وقد عرفنا أنه لا يجوز بيع الوقف إلا عند الضرورة والحاجة، والضرورة والحاجة تكون عند أن تتعطل منافعه، فإن تعطلت منافعه، وحكم القاضي ببيعه وبِيع؛ فإنه يصرف إلى مثله، فإن كانت مزرعة وجب على القاضي أن يشتري بثمنها مزرعة مثلها، وإذا كانت عمارةً أُوقفت رباطاً للسكن ونحو ذلك، فإنه حينئذ يحكم القاضي بالانتقال إلى سكن يماثل السكن الذي يتحقق به شرط الواقف، مثل الوقف الأول الذي حُكم بجواز بيعه.