[مشروعية الوصية بالكتاب والسنة والإجماع]
ولقد شرع الله عز وجل الوصية في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية الوصية وجوازها، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:١٨٠].
فقد كانت الوصية مفروضة في أول التشريع، والله عزّ وجل جعل الوصية للإنسان، يوصي لأقربائه؛ سواءً كانوا أصولاً كالوالدين، أو فروعاً كالأولاد، أو ما يتصل بذلك من القرابة والحواشي.
فكان الأمر في أول الإسلام أن المريض مرض الموت يصرف ماله إلى قرابته، فيقول: أَعطوا فلاناً كذا وكذا، وأعطوا فلاناً كذا وكذا من قرابته، فيبدأ بوالديه، ثم الأقرب فالأقرب، ولم تكن هناك مواريث، فكان كلٌ يوصي لقرابته بما يراه.
ثم إن الله تعالى تولَّى قسمة المواريث من فوق سبع سماوات، فلم يكلها إلى ملك مقرب ولا إلى نبي مرسل، فنسخت فرضية الوصية، وبقي استحبابها لغير الوارث، وتكون هذه الآية: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} [البقرة:١٨٠]، أي: فُرِض، ثم قال الله في خاتمتها: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:١٨٠].
وهذا يدل على الوجوب واللزوم، لكن هذه الآية منسوخة حكماً لا تلاوةً، فهي مما بقيت تلاوته، ونُسخ حكمه، فهي محكمة تلاوةً لا حكماً.
وقد بيّن الله سبحانه وتعالى في آيات المواريث في مواضع عديدة من الكتاب استحقاق كل وارث؛ سواءً كان من ذوي الفروض من الأصول أو من الفروع، وبينت السنة أيضاً أحكام العصبات وما يستحقون في الإرث.
وبعد هذا البيان للفرائض نُسخت فرضية الوصية، وبقيت على الاستحباب بالنسبة لغير الوارث.
وأما السنة فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مشروعية الوصية، لكن السنة فصّلت في حكم الوصية: فالشخص لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون عليه حقوق لله عز وجل، أو لعباده، أو لهما معاً.
الحالة الثانية: أن لا تكون عليه حقوق.
فإن كانت عليه حقوق واجبة لله عز وجل، أو لعباده أو لهما؛ فإن الوصية فرضٌ عليه، فيكتب الوصية ويبيّن حق كل ذي حق، وقدر ذلك الحق الذي وجب عليه؛ وذلك كشخص حضرته الوفاة وعليه كفارات، فيكتب في وصيته أن عليه إطعام ستين مسكيناً من كفارة ظهارٍ مثلاً إذا كان لم يستطع الصوم، ولم يستطع العتق، أو جماع في نهار رمضان، أو يكتب إن عليه دماً واجباً جبراناً لواجبٍ في حج، وهكذا بالنسبة لبقية الحقوق، فيكتب في وصيته ما هو حق عليه لله سبحانه وتعالى.
والوصية فرض عليه في هذه الحالة؛ لأنه يجب عليه الوفاء بحق الله، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فلما كان الوفاء بهذا الحق متوقفاً على أن يعهد إلى ورثته من بعده أن يقوموا بأداء هذه الكفارات وإيصالها إلى أهلها؛ وجبت عليه الوصية بهذا.
إذاً: الوصية بالحقوق لله سبحانه وتعالى واجبة؛ لأنه وسيلة للقيام بالواجب.
وكذلك إذا كان عليه حقوق للناس، مثل ديون لأشخاص، فإنه يكتب في وصيته أن فلان ابن فلان علي كذا وكذا، أو في ذمتي كذا وكذا، ويبيِّن في وصيته اسم ذلك الشخص كاملاً وعنوانه، خاصة إذا خُشي التباسه بغيره، أو صعُبت معرفته إلا عن طريق ذلك، فيجب عليه بيانه.
كذلك أيضاً تجب عليه الوصية في غير الأموال.
الشاهد: أن السنة بينت أن الوصية لها حالتان: فإذا كانت هناك حقوق وواجبات مالية على العبد، فالوصية واجبة عليه، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى في حديث ابن عمر في الصحيحين: (ما حق امرئٍ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي به إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه).
فهذا الحديث بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم لزوم ووجوب الوصية، لكن إذا كان هناك شيء، بمعنى: إذا تعلقت ذمته بحقوق للناس، أو بحقوق لله عز وجل، فليس من حقه أن يضيِّع هذه الحقوق، أو يتعاطى أسباب تضييعها بالتفريط في الوصية.
وأما إذا كان الإنسان خُلواً من الحقوق والواجبات التي لله عز جل وللناس، وذمته بريئة من هذا كله، فقد تكون الوصية واجبة عليه من حقوق غير مالية، مثل أن يكون عنده أولاده، وهؤلاء الأولاد دون البلوغ، ولا شك أن الإنسان عرضة للموت في لحظاته فضلاً عن دقائقه، فضلاً عن ساعات عمره، فضلاً عن أيامه، فهو عرضة للموت بين العشية والضحى، فالواجب عليه إذا كانت عنده ذرية ضعيفة، كالقُصّار والأولاد الصغار، أن يكتب وصية يعهد فيها إلى شخصٍ يثق بدينه وأمانته وعقله وحسن نظره في أمر ذرِّيته من بعده؛ لأن هذا من النصيحة للولد، وأعظم الحقوق بعد حقوق الوالدين حقوق الأولاد؛ لأن الله حمّل العبد مسئوليتهم، وألزمه أمانتهم، فالواجب عليه أن لا يدّخر وسعاً إذا علم أمراً فيه صلاح دينهم أو دنياهم أو آخرتهم أو مجموع ذلك كله إلا ووصى به، فيوصي بذريته الضعيفة، كما أمر الله سبحانه وتعالى وأشار إلى ذلك بقوله: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:٩].
فوصى الله سبحانه وتعالى من ابتلي بالذرية الضعيفة؛ كالأيتام والقُصّار من بعده، والنساء -ولو كن بالغات فهن يحتجن من يزوجهن ومن ينظر في أمورهن ومصالحهن- أن يكتب وصيته إلى من يثق بدينه وأمانته وعقله من قرابته، فيبدأ بالأقرباء لأنهم أستر وأكثر حفظاً للعرض، وأكثر حفظاً للسر، فإذا لم يجد في القرابة من تتوفر فيه الصفات وتبرأ به الذمة، عهِد إلى من يثق به من إخوانه المسلمين.
وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية الوصية، وقد فعل ذلك أئمة السلف وخيار الناس من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الخلفاء الراشدون الأئمة المهديون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فقد وصى أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وأرضاهم، ووصى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصى التابعون لهم بإحسان، والأئمة، ولذلك فلا يُشك في مشروعية الوصية، وأنها من أعظم الخير الذي يُسديه الإنسان لأهله وولده من بعد موته.