قال رحمه الله:[وإن أقام كل واحد بينة أنها له، قضى للخارج ببينته ورفض بينة الداخل] هذه المسألة مشهورة عند العلماء، وهي مسألة تعارض البينات، فلو اختلفا في بيت أو في كتاب أو في أرض -أي: سواء كان عقاراً أو منقولاً- وعرفنا من المدعى عليه أحدهما القائم على مصالح هذا الشيء، كساكن في البيت في الداخل، وجاء الخارج وأقام بينة، ثم الداخل أقام بينة، هذا عنده شاهدان يشهدان أن البيت بيته، وأنه لن ينتقل منه إلى الآخر إلا بعوض؛ لأن البيت بيته وأنه ملك له، والآخران أيضاً شهدا بأن البيت بيت فلان وملك لفلان، فهذان شاهدان وهذان شاهدان، والشريعة اعتبرت الشهادة حجة، فماذا يفعل في هذه الحالة؟ طبعاً من العلماء من قال: تسقط البينتان، يعني بينة الداخل وبينة الخارج، أي: إذا تعارضتا سقطت هذه وسقطت هذه فألغيتا؛ لأننا لو عملنا بهذه بناء على أن الشرع يعتبرها حجة، فكذلك يجب علينا أن نعمل بالأخرى؛ لأن الشرع يعتبرها شهادة وحجة ليس عليها أي غبار ولا فيها أي مطعن، فلا يمكننا أن نفضل حجة على حجة، وإن فهم القضاء بالحياد لأحد الخصمين لكن إن وجد المجرم قال سقطت البينتان.
لكن هناك أحوال بعض العلماء يستثنيها، يقول: لو كانت إحدى البينتين شهودها معروفون بالضبط وبالإتقان وبالعدالة، وهذا تغليب ظن قوة الحجتين، قالوا: فترجح، لكن هذا ضعيف؛ لأن العلم المستفاد من حيث الأصل حجية، والحجية موجودة في الاثنين، فحينئذ مثلاً إذا كان الشاهد مرضياً فلا إشكال إذا قامت الحجتان.
ومن أهل العلم من قال: نقدم بينة الخارج على بينة الداخل، وهذا هو الذي رجحه المصنف رحمه الله، بمعنى أنه يقول: إذا كنت ساكناً في الدار وعندك حجة وبينة، والآخر خارج الدار وادعى عليك وجاء بحجة وبينة؛ قدمنا حجة الخارج، قال: لأن هذا الذي في داخل البيت لما أثبت لنفسه فالظاهر شاهد على حاله، وبالنسبة للخارج جاء بشيء يحتمله العرف، وهو أنه باع أو تصرف، أي أن الساكن في البيت قد باع للخارج، ومن هنا تقوى بينة الخارج وترجح على بينة الداخل، هذا تعليل بعض العلماء في ترجيح القول الذي اختاره المصنف.
ولكن في الحقيقة من أقوى القرائن: زيادة العلم، وهي أن بعض العلماء قال: إن بينة الداخل -الذي هو داخل الدار- جارية على الأصل، وبينة الخارج ناقلة من الأصل، والناقل عن الأصل جاء بزيادة، وحينئذ يقدم، وهذه المسألة مثل ما ذكروا إذا تعارض الحاضر والمبيح، قالوا: يقدم الحاضر على المبيح؛ لأن المبيح جارٍ على الأصل؛ لأن الأصل في الأشياء حلها وإباحتها، فإذا جاء المحرم فمعنى ذلك أننا نقلنا عن الأصل فصارت استفادة وزيادة علم هذا وجه.
فالذي يظهر -والله أعلم- أنه لا تقدم حجة الخارج، وأن بينة الخارج ساقطة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)، لأن هذا التعليل في كلتا الحالتين ضعيف، وأن الأقوى والمعتبر من جهة النص، وهو كون النبي صلى الله عليه وسلم قال:(البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)، فنحن نقول: هذان شخصان اختلفا في البيت، فإذا جئنا نقدم بينة الداخل على بينة الخارج خالفنا النص؛ لأن الذي في الداخل مدعى عليه، والذي في الخارج مدعٍ، فحينئذ الأصل الشرعي يقتضي أن ينظر في بينة الخارج لا في بينة الداخل؛ لأن الذي في الداخل مطالب باليمين -إذا لم توجد بينة- ولا يطالب ببينة، إنما الذي يطالب بالبينة هو الخارج، ومن هنا نرجح أن هذا القول قوي من جهة النقل لا من جهة العقل والتعليل؛ لأن الذي ذكرناه في الأول تعليلات، فنرجح هذا القول الذي نص عليه المصنف رحمه الله وهو تقديم بينة الخارج على بينة الداخل، ويكون الترجيح مستفاداً من جهة أن بينة الخارج مبنية على النص، حيث إن المدعي مطالب بالبينة والمدعى عليه لا يطالب بالبينة، فحينئذ نقول: لما جاءتنا بينة الخارج لزمنا بحكم النص أن نعمل بها، ومعارضة بينة الداخل، ومثله ليس له أن يأتي بالحجة، فتُقدم حجة الخارج على الداخل، هذا بالنسبة للمسألة إجمالاً ووجه ترجيحها، وعلى كل حال لا يخلو الفقهاء من بعض المخارج، كان بعض مشايخنا يقول: فليخرج، ثم إذا خرج يقيم دعوى جديدة، ويأتي ببينة حتى يصبح الأمر على الدور، ومن هنا قالوا: إن هذا لا إشكال فيه، فإنما أسقطنا البينة الثانية؛ لأنها تؤدي إلى الدور، (وما أدى إلى باطل فهو باطل)، والفقيه يجد له مخرجاً.