للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

شروط الاقتصاص من المكرِه والمكرَه

وقوله (ومن أكره مكلفاً) فخرج من أكره غير المكلف، ومن هنا لو أكره مجنوناً أو صبياً وقال له: اذهب واقتل فلاناً وإلا قتلتك، وهدده بما يخاف، فإنه في هذه الحالة يُقتص من الذي أمر ولا يُقتص من الذي باشر؛ لأن غير المكلف يسقط القصاص عنه، ومن شروط القصاص: أن يكون القاتل مكلفاً، فلو أنه هدد صبياً وقال له: اقتل فلاناً، فإن الصبي لا يعقل الأمور ولا يميزها، وقد رفع الله عنه القلم، فأسقط عنه المؤاخذة، فلذلك جماهير السلف والخلف -إلا قولاً ضعيفاً- أن الصبي ولو كان مميزاً غير مكلف؛ لظاهر النصوص الصحيحة الصريحة التي تدل على عدم تكليفه، فإذا ثبت هذا؛ فإننا نقول: يشترط في القصاص من الاثنين (الآمر والمأمور) أن يكونا مكلفين.

والعكس: فلو أن مجنوناً وضع السلاح على عاقل ومكلفٍ وقال له: إن لم تقتل قتلتك، فإن الحكم لا يختلف، لكن إذا قتل هذا المأمور؛ فإنه يقتص منه ولا يُقتص من الآمر؛ لأنه فدى نفسه بقتل أخيه، وهذا لا يباح في الشريعة.

وقوله: (على قتل مكافئه) من شرط القصاص -كما سيأتي- وجود المكافأة، أي: أن يقتل مكافئاً، فلو كان الذي قتله أعلى منه ففي هذه الحالة ننظر: فتارة يكره حر على قتل عبدٍ؛ فإنه لا يقتل الحر بالعبد، أو مسلمٌ يُكره مسلماً على قتل كافر، فإذا كان هذا الكافر مباح الدم فلا تأثير؛ لأنه لا قصاص مثل الحرب، أو غير معصوم الدم كالزاني المحصن، أو أكرهه على قتل كافرٍ أو على قتل عبدٍ، وهما حران؛ فإنه لا يُقتص منهما.

لكن لو أن مسلماً أكره ذمياً على قتل ذمي، فإن الذمي والذمي مرتبتهما واحدة، فيُقتص منهما، وفي هذه الحالة يُقتل الذمي بالذمي، لكن لا يُقتل المسلم بالذمي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نصّ في حديث عليٍ الصحيح: (لا يُقتل مسلم بكافر)، فبين المصنف رحمه الله أن شرط القصاص من الاثنين: أن يكون المقتول مكافئاً لهما، فإذا كان مكافئاًَ لأحدهما؛ اقتص من ذلك الذي يكافئ، وسقط القصاص عن غير المكافئ، كما لو اشترك مكلف وغير مكلف.

وبناءً على ذلك لو أن المسلم أكره الذمي على قتل ذمي؛ اقتص من الذمي القاتل، ولم يُقتص من المسلم المكرِه، وإنما يعزر، على تفصيل عند العلماء في مسألة الإكراه إذا سقطت عن الطرف الثاني، والعكس: فلو أن ذمياً أكره مسلماً على قتل ذمي؛ وجب القصاص على المُكْرِه الذمي دون المُكْرَه المسلم؛ لأنه غير مكافئ له؛ لأن الكافر ليس بكفء للمسلم فيقتص منه، وهذا على مذهب الجمهور، خلافاً للحنفية رحمهم الله الذين يرون أن المسلم يقتل بالذمي، لكن الأحناف رحمة الله عليهم لا يرون في الإكراه قصاصاً، وعندهم قاعدة في هذه المسألة وهي حديث: (ادرءوا الحدود بالشبهات)، قالوا: إن الذي قتل عنده شبهة، وهي الإكراه، والذي هدد لم يقتل حقيقة، فلا قصاص على الذي هدد؛ لأنه لم يقتل حقيقة، وقد أمر الله بالقصاص من القاتل حقيقة، ولا قصاص على المكرَه؛ لأن فيه شبهة، وقد أمرنا بدرء الحدود بالشبهات.

وهذا قول ضعيف بل باطل لما ذكرناه؛ فكلٌ منهما قاتلٌ من وجه، فإنك لو نظرت إلى الجماعة يشتركون في قتل واحد، لوجدت الإكراه أشبه باشتراك الجماعة في قتل الواحد، كما لو أن أحدهما أمسكه على وجهٍ يحصل به الزهوق، وأزهق الآخر روحه؛ فإنه في هذه الحالة يُقتص من الاثنين: من الذي تعاطى السبب المؤثر في الإزهاق، والذي قتل حقيقة، فكل منهما قاتل.

ويجاب كذلك بأن حديث: (ادرءوا الحدود بالشبهات) الشبهة فيه مؤثرة، وهنا الشبهة غير مؤثرة؛ لأن الإكراه لم يثبت حقيقة، وكذلك نقول لهم: الشبهة تكون مؤثرة وموجبة للإسقاط في الحدود والقصاص إذا كانت قوية، وهنا لم تقو على إسقاط حكمٍ شرعي، فكل من الآمر والمأمور قاتل من وجه؛ إذ لولا الله ثم هذا الإكراه لما حصل هذا القتل، فهو قاتل وهو يريد القتل، وهو الذي حرك المأمور والمُكرَه على القتل.

والذي قتل وهو المأمور -المكرَه- لا إشكال فيه؛ لأن الإزهاق حصل بفعله، وحينئذٍ يُقتص من الاثنين، فأما الشبهة التي ذكروها فإن الإكراه شرطه: أن يكون ما هدد به أعظم ضرراً مما طُلب منه، وهذا لم يتحقق، فإن المطلوب مساوٍ لما هدد به، وحينئذٍ لم يكن مكرهاً حقيقة.

ثم أيضاً: العجب أن الحنفية رحمة الله عليهم من أضيق المذاهب في تحقيق الإكراه، والحكم بالإكراه، فعندهم الإكراه التام، والإكراه الناقص، والإكراه الملجئ وغير الملجئ، وهذا لأنهم لا يرون الإكراه إلا في حدود ضيقة جداً، ويرون أن الإنسان ينعدم به التصرف كلية كما لو رمي شخص فسقط على الغير وهو مكره؛ لأنه لا يستطيع أن يميل يمنة أو يسرة، فالإكراه عندهم مضيق، وهنا اعتبروه شبهة، مع أنه إكراه غير مؤثر، حتى في الطلاق ومسائل الطلاق، ومثل هذا الإكراه الناقص لا يرونه إكراهاً مؤثراً، ولذلك نقول: الصحيح هو مذهب الجمهور، خاصة وأننا إذا نظرنا إلى حكمة الشرع ومقصوده من القصاص كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:١٧٩]، فإن هذا ينعدم؛ إذ لا ضير على أحد بل حتى على المجرمين، لا بأس ولا خوف عليهم، وكلما أراد مجرم أن يقتل شخصاً آخر ما عليه إلا أن يهدد شخصاً جريئاً على أن يقتل، أو شخصاً كثير الخوف على القتل فيقول له: اذهب واقتل فلاناً وإلا قتلتك وهكذا.

<<  <  ج:
ص:  >  >>