(أو تنجس دهن مائع لم يطهر) الدهن له حالتان: إما أن يكون مائعاً أو جامداً، والدهن: مثل: السمن أو الزيت، فالسمن: كسائر ما يكون من بهيمة الأنعام، والزيت: كأن يكون زيتاً نباتياً، مثل: زيت الزيتون، والدهن إذا جمد -كالسمن- إن وقعت فيه نجاسة، فالحكم أنك تأخذ النجاسة وما حولها؛ لظاهر حديث الفأرة في الصحيح، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإلقائها وما حولها، أي: في السمن، فدل هذا على أنه -أي: الدهن- إن كان جامداً طهر بزوال عين النجاسة وما حولها، أو ما قاربها.
وأما إذا كان الدهن مائعاً تسري فيه النجاسة وتتخلل فيه فللعلماء في نجاسة المائع قولان: القول الأول: يقول: نجاسة الدهون نجاسة مجاورة لا نجاسة عين، ومرادهم بنجاسة المجاورة أنك حينما ترى القطرة من البول وقعت في السمن فإنها تنحاز وتتميز عن السمن، قالوا: فنجاسته نجاسة مجاورة، ونجاسة المجاورة ليست كنجاسة العين، أي: ليست مثل وقوع البول في الماء؛ فإنه يتحلل فيه، وتصير طاقات الماء وطاقات البول ممتزجة، فصارت نجاسة ممازجة، ففرق العلماء بين نجاسة المجاورة التي يكون فيها جرم النجس منفصلاً، أو ترى فيه انحيازه وعدم ممازجته للعين التي أصابها، وبين النجاسة التي تمازج، والسبب في إفراد العلماء للدهون بالكلام في كتب الفقهاء وجود هذا الإشكال، وهو: أن النجاسة إذا وقعت فيها يقول بعض العلماء: إنه يمكن إزالة هذه النجاسة، لأنها نجاسة مجاورة وليست بنجاسة عين، والنجاسة إذا ضعفت عن التأثير بقي حكم الأصل من كونه طاهراً.
فإذا علمنا أن عندنا قولين فما هو أقواهما؟ هل هي نجاسة عين أو نجاسة مجاورة؟ فالذي يقوى ورجحه غير واحد من المحققين: أن نجاسة الزيوت والدهون -إلا في بعض الصور المستثناة، وهذا يختلف باختلاف أنواع الزيوت- نجاستها نجاسة مجاورة وليست نجاسة ممازجة، فإن دليل الحس ظاهر، حتى إنك في بعض الأحيان تحكم بأن النجس قد صار إلى هذا الركن أو هذا الجانب من المائع، فنجاسة هذه المائعات أو الدهون نجاسة مجاورة وليست بنجاسة ممازجة.
وإذا ثبت في مسألة نجاسة الدهون أنها نجاسة مجاورة، فيرد هنا سؤال وهو: هل يمكن تطهير الزيوت أو لا يمكن؟ هذه مسألة تكلم عليها العلماء في المذاهب الأربعة كلاماً مستفيضاً، ويترتب عليها مباحث مهمة ومسائل عظيمة في العبادات كالطهارات، وفي المعاملات كالبيع والشراء، فإنك إذا قلت: السمن يمكن تطهيره والزيت المتنجس يمكن تطهيره جاز بيعه، كالثوب يباع وفيه نجاسة؛ لأنه يمكن تطهيره، أما لو قلت: إن الزيت قد أصبح متنجساً، فإنه لا يجوز بيع النجس؛ لأنه لا يمكن تطهيره، فتحكم بعدم جواز البيع، فاختلف العلماء الذين قالوا بأن النجاسة فيه نجاسة مجاورة: هل يحكم بتطهيره أو لا؟ وأصح الأقوال وأقواها: أن فيه شبهة التطهير، يعني: يقوى القول بأنه نجس ويصعب تطهيره، لكن إذا تيسر في هذه الأزمنة وجود بعض المواد التي يمكن بها سحب هذه المادة النجسة فيحكم بالطهارة، قالالذين يرون تطهيره: إنه إذا تنجس الزيت بوقوع بول فيه، فنصب من الماء قدراً يغلب على ظننا أنه لو مازج البول كاثره حتى تذهب مادة النجاسة، فلو كان البول قطرة، وصببت كأساً من الماء، فإن القطرة إذا صب عليها الكأس من الماء أذهب نجاستها، قالوا: فنصب هذا الماء على الزيت، ثم لهم طريقة في استخلاص الماء مع البول، فإن البول ينحاز عن السمن، فإذا صببت الماء في هذه الحالة فإن الماء يختلط بالبول؛ لأن البول يمتزج مع الماء، ولا يختلط الماء مع الزيت -كزيت الزيتون ونحوه- فيبقى الماء في ناحية والزيت في ناحية أخرى، فيقومون باستخلاص الماء بطريقة معينة، قالوا: حتى لو بقي شيء من هذا الماء فقد بقي مكاثراً للنجس، فيحكم بطهارته، وهذا وجه من يقول بتطهير الزيت.
أما الطريقة الثانية لهم في التطهير: أن يُغلى بالماء، فإذا غلي بالماء تبخرت النجاسة وبقي الزيت؛ لأن الزيت إذا غلى انقدح، ولكن الشيء الذي فيه يتأثر بهذا الغليان، فمن شدة الحرارة على البول أو على الماء المتنجس الذي وقع يزول مع الغليان.
وقد ذكر المصنف رحمه الله أن الدهن لا يطهر؛ لأنه يرى أن النجاسة نجاسة ممازجة، وهذا مبني على حديث الفأرة -وهو حديث ضعيف- حيث جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن كان مائعاً فلا تقربوه) ولو صح حديث الفأرة لقطع النزاع في هذه المسألة.