[العقود التي يثبت فيها خيار المجلس]
قال رحمه الله: [يثبت في البيع] أي: يثبت خيار المجلس في البيع، كما قلت له: بعتك سيارتي داري مزرعتي كتابي قلمي ساعتي ثوبي إلى آخره، فيثبت في جميع أنواع البيوع، سواء كان بيعاً مطلقاً أو كان بيع الصرف أو بيع المقايضة، فكله يثبت فيه الخيار.
وقوله: [والصلح بمعناه]: المراد به الصلح بعوض؛ لأن الصلح يكون أحياناً بعوض، وأحياناً يكون بدون عوض، والصلح بعوض يكون في حكم البيع.
مثال ذلك: لو أن رجلين اختصما إلى قاضٍ فقال أحدهما لصاحبه: تنازل عن حقك أعطك كذا، أو يقول: أرضيك عن الحق الذي لك بكذا، أو هذه ألف ريال وتنازل عن دعواك، أو عن حقك الذي ثبت لك، فلما اصطلحا على هذا المبلغ فالألف في مقابل الحق، فيقول حينئذ: قبلت، فهذا صلح بعوض وهو في كم البيع؛ لأن البيع تكون فيه الألف في مقابل سيارة أو مقابل أرض، والألف في الصلح وقعت في مقابل حق شخصي، فكما أن المال يكون في مقابل الحق العيني، يكون أيضاً في مقابل الحق الشخصي، فلو أنه قال له: تنازل عنه، فقال: رضيت، وطابت نفسه مقابل هذه المراضاة التي أعطاه إياها، ثم إنه قبل أن يفترق معه قال: رجعت، لا أريد أن أتنازل، بل أريد حقي الذي أقررت به، ولن أتنازل لقاء ألفين أو ثلاثة.
إلى آخره، فمن حقه أن يرجع ما لم يتفرقا، مثل البيع، فتبين أن الصلح بعوض كالبيع؛ لأن البيع معاوضة، والصلح معاوضة.
قال رحمه الله: [والإجارة] وهي بيع المنافع، فلو أن رجلاً جاء إلى صاحب عمارة، وقال له: أريد شقةً تؤجرنيها سنة، أو نظر فيها فأعجبته، فقال: بكم تؤجرها، فقال: أؤجرها بعشرة آلاف، فقال: قبلت، فتم عقد الإجارة بينهما، فلو جلسا ثلاث ساعات أو أربع ساعات ثم قال: لا أريد، رجعت عن استئجار هذه الشقة، فهذا من حقه، ما دام أنهما في مجلس واحد، وليس لصاحب العمارة أن يلزمه.
وكذلك العكس فلو أن صاحب العمارة رضي بعشرة آلاف ثم تفكر ونظر، فقال: لا أريد ورجع عن إجارتها، فذلك من حقه ما دام أنهما لم يفترقا عن مجلس العقد.
قال رحمه الله: [والصرف] أي: لو كان عندك ألف دولار، وجئت إلى رجل وقلت له: اصرفها لي فقال: قبلت، وبينما أنتما جالسان في مجلس واحد، جئت تريد أن تخرج، فقال الصارف: رجعت، أو طالب الصرف، فإنه من حقه ما دام أنه قد رجع عن العقد قبل أن تفترقا، ويجب عليك أن ترد؛ لأن المتبايعين بالخيار ما لم يتفرقا، والصرف يسمى بيعاً، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد).
فجعل صرف الذهب بالفضة بيعاً؛ لأنه قال: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة)، ثم قال (فإذا اختلفت هذه الأصناف)، أي: كذهب بفضة (فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد).
ولقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد رضي الله عنه وأرضاه -وهو في الصحيحين-: (ولا تبيعوا منها غائباً بناجز) وهذا في صرف الذهب بالفضة (الدنانير بالدراهم)، فقال عليه الصلاة والسلام عن الصرف: (ولا تبيعوا) فدل على أن الصرف بيع، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (البيّعان بالخيار) والصرف بيع دخل في هذا العموم.
[والسلم]: وهو بيع، والسلم: تقديم الثمن وتأخير المثمن -وسيأتي إن شاء الله بيانه- كأن تأتي إلى صاحب المزرعة، وهو يحتاج إلى البذر، ولا تكون عنده سيولة لشراء البذر، فمن رحمة الله عز وجل بعباده أن رخص في أن تعطيه قيمة لشيء ستشتريه منه، تقول له: أشتري منك مائة صاع من الحب الفلاني -الذي سيزرعه في أرضه- إلى أجل فأعطيته المبلغ لقاء كيل معلوم أو وزن معلوم، إلى أجل معلوم، فأوجبتما، فقال: إذاً: أنا سآخذ هذه الألف، وإن شاء الله عند حصاد الحب أعطيك مائة صاع، وقبل أن تفترقا قلت له: ما أريد، أو قال لك: لا أريد، فالرجوع من حقه ومن حقك ما دام أنكما في مجلس واحد، وهو مجلس العقد، ولم تفترقا.
وقوله رحمه الله: [دون سائر العقود]: أي: فلا يشمل العقود الأخرى التي لم يسمها المصنف رحمه الله، فإن خيار المجلس لا يثبت فيها؛ لأن بقية العقود اللازمة لا يصدق عليها وصف البيع، فالصلح يمكن أن يكون بيعاً؛ لأنه إذا كان بعوض فهو معاوضة، والإجارة في حكم البيع؛ لأنها بيع المنافع، وبالنسبة للسلم والصرف، فهما أصلاً بيع، فهذا وجه التخصيص، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيّعان) فخرجت بقية العقود.
فالخيار يختص بهذا النوع من العقود ولا يشمل العقود الأخرى، فلو اقترض منك مائة ألف، ثم قال: لقاء هذا المال رهنتك مزرعتي، أو داري، وقبل أن يفترقا، قال: رجعت عن الرهن، فلك أن تقول: ليس من حقك؛ فإن الرهن يعتبر لازماً، ويبقى إلى أن يسدد أو يباع ويسدد منه الحق الذي في ذمة المدين، وعلى هذا يختص الحكم بما سمى رحمه الله من العقود.