التفصيل فيما إذا نسي الإمام التشهد الأول ثم رجع بعدما استتم قائماً
السؤال
إمام قام عن التشهد الأول واستتم قائماً، فلما سبح المأموم عاد للجلوس، فانقسم أهل المسجد إلى طائفتين: طائفة رجعت، وطائفة استمرت في قيامها، فأي الطائفتين أقرب للصواب؟ المشكلة أنه يوجد خلاف في هذه المسألة، الجمهور على أنه إذا استتم قائماً وشرع في الفاتحة لا يرجع، فلو استتم قائماً وشرع في الفاتحة ثم رجع وعلمت أنه جاهل فعليك أن تنوي مفارقته وتبقى على القيام؛ لأنك إذا رجعت رجعت إلى فعل زائد في الصلاة؛ لأنه ليس من حقه أن يرجع وليس من حقك أن ترجع؛ فإذا رجع فإنه قد زاد، خاصة إذا كان جاهلاً.
في هذه الحالة تنوي مفارقته وتطيل في القيام حتى يقوم لأنك في مسجد لا تستطيع أن تنفرد، فإذا قام تابعته شكلياً، إذا جاء يكبر للركوع كبرت أنت لركوعك ولا تنوي متابعته، وإنما تتابعه صورة لا حقيقة، ظاهراً لا باطناً.
أما إذا كان الشخص الذي فعل هذا الفعل يرى قول من يقول من السلف: إن من وقف ولم يجلس للتشهد الأول فعليه يرجع ما لم يركع، فهذا القول شاذ وضعيف لأنه مصادم لحديث عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي، فقام من الركعتين فسبحوا له، فأشار إليهم أن قوموا).
فدل على أنه إذا استتم قائماً لا يرجع، في هذه الحالة نقول: تنوي مفارقته؛ لأنه أبطل صلاته؛ لأنه عندما رجع زاد في الصلاة ما ليس منها؛ لأنه قد سقط عنه التشهد والجلوس له، فكأنه رجع إلى جلسة ليست بلازمة له فأحدث في الصلاة فعلاً زائداً.
ومن هنا قالوا: إنك لا تتابعه وتنوي مفارقته، ومن أهل العلم من قال: تتابعه لما كان فيها من شبهة الخلاف، وخاصة إذا كان طالب علم وتظن أنه يقول بهذا القول، أو يقول بقول من يرى أن مجرد القيام لا يكفي، بل لابد أن يشرع في الفاتحة حتى يكون قد شرع في الركن فعلاً.
والصحيح أن العبرة بالوقوف؛ لأن بنفسه ركن القيام فلا يشترط له قراءة الفاتحة؛ لكن على القول الثاني لو كان الإمام يرى أنه لابد أن يقرأ الفاتحة، ففي هذه الحالة من أهل العلم من قال: يجب عليك الرجوع؛ لأنه يفعل فعلاً مشروعاً في حقه، فتجب عليك متابعته؛ لأن المتابعة في الأفعال الظاهرة واجبة في الواجبات.
ومن هنا وجب عليك القنوت إذا قنت الشافعي وأنت لا ترى القنوت؛ لأنه يراه واجباً، فينقلب واجباً عليك بحكم المتابعة، والمتابعة للإمام خلاف مذهبه واجبة في الواجبات، ولازمة في الأركان، فحينئذٍ يجب عليك الرجوع، وهذا مذهب صحيح وقوي، أنه إذا كان يرى أنه لابد من قراءة الفاتحة ورجع وكان طالب علم فإنك ترجع معه؛ لأن المتابعة في الأفعال واجبة ولو خالفت مذهبك.
وهذا أمر قرره أئمة المذاهب على اختلافهم، قرره الفقهاء الحنفية، كالإمام ابن عابدين في حاشيته، وكذلك صاحب فتح القدير الكمال بن الهمام رحمه الله.
وكذلك قرره من أئمة المالكية رحمهم الله شراح خليل كـ الحطاب وعليش، وأيضاً قرره فقهاء الشافعية كالإمام النووي خاصة في الروضة، وأشار إلى أن الاقتداء بالمخالف في الفروع يلزم المتابعة.
وقرره من أئمة الحنابلة الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني، فذكر أنه يجب عليك أن تتابعه في الواجبات ولو كنت لا ترى وجوبها، لكنها لما كانت واجبة عليك صارت واجبة لك في حكم الاتباع في الائتمام، وقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال سمع الله لم حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد) فرق فيه بين الأركان والواجبات.
فأمر بالمتابعة في الأركان في قوله: (إذا كبر) أي: تكبيرة الإحرام (إذا ركع) (إذا رفع)، ثم قال في الواجبات: (وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد).
فدل على أن الإلزام بالمتابعة للإمام واجب في الواجبات والأركان؛ لأن الحديث فصلها، وقوله: (فإذا كبر) تفصيل لقوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) وتفسير لهذا الأصل، وإذا ثبت هذا فإنه إذا كان الإمام يرى أن مجرد القيام لا يكفي فعليك أن ترجع معه وتبقى معه.
أما إذا كان عندك شبهة وبقيت واقفاً حتى انتهى لأنك تخاف أنه فعل هذا عن جهل، ثم قام ورجع إلى القيام، فالأفضل والأكمل أنك تنوي مفارقته لوجود العذر، وتتابعه في الصورة ولا تتابعه في الباطن؛ احتياطاً وابتعاداً عن السبب الموجب للفساد.
والله تعالى أعلم.