هل مقصود النبي صلى الله عليه وسلم في إعراضه عن ماعز وهو يعترف بجريرته أن يكرر الذنب الذي أصابه أربع مرات فينزل منزلة الشهود الأربعة؟
الجواب
تكرار الإقرار بالزنا لمن اعترف به مسألة خلافية بين العلماء رحمهم الله، والأشبه والأحوط لظاهر النص أنه يكرر إقراره -وسيأتينا إن شاء الله بسط هذه المسألة وبيان خلاف العلماء فيها فمن حيث الأصل فإن التكرار موجود، والنص واضح في هذا، والنبي صلى الله عليه وسلم قال له:(ويحك! ارجع واستغفر الله ثم تب إليه) أربع مرات، فهذا أصل يدل على أن كل إقرار ينزل منزلة شاهد.
لكن الذين لا يشترطون التكرار استدلوا بأدلة، منها: حديث المرأة التي اعترفت، وهي قصة العسيف، وفيها قوله صلى الله عليه وسلم:(واغد -يا أُنيس - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها)، قالوا: فلم يذكر تكراراً للإقرار، لكن أُجيب بأن المجمل لا يعارض المفصل، ولذلك قالوا: ما وكل النبي صلى الله عليه وسلم أُنيساً إلا وعند أُنيس علم، ومن هنا أعطاه الوكالة العامة، كأنه يقول يفعل معها في الإقرار ما هو مشترط شرعاً.
أما إقرار ماعز رضي الله عنه فإنه جاء المرة الأولى -كما في الصحيح من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فقال:(يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، فرجع غير بعيد ثم أتى فقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال: ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، فرجع غير بعيد، فقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فلما كانت الرابعة وأتمها، سأله النبي صلى الله عليه وسلم: أبك جنون؟) -فقوله:(أبك جنون؟) تدل على أنه لا يُقبل إقرار المجنون- فأُخبر عليه الصلاة والسلام أنه ليس بمجنون، ثم قال له:(أشربت خمراً؟ -وهذا في صحيح مسلم- فقام رجلٌ فاستنكهه) يعني: شم رائحة فمه، وانظروا إلى دقة القضاء في الشريعة الإسلامية، من الذي يتبجح بالحقوق، فأين الذين يتبجحون بحقوق الإنسان المتهم، وحقوق الإنسان، هذا السمو هذا العلو في التشريع يدل على أنه لا أحسن من الله حكماً لكن لقوم يوقنون، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال:(أشربت خمراً فقام رجل فاستنكهه) يعني شم رائحة فمه، لذلك بعض العلماء أخذ مما سبق أن الرائحة قرينة على شرب الخمر، وسيأتينا ذلك إن شاء الله في باب شرب المسكر، فلم يجد رائحة، ثم فصل معه في الزنا، وسأله عن الزنا، حتى أثبت أنه زنى بها زناً تاماً، وهذه كلها شروط للإقرار بالزنا.
أما حديث:(واغد -يا أُنيس - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها)، ففيه نوع إجمال، فأجمل للعلم بتفصيله، فما علم من هديه وسنته عليه الصلاة والسلام مجملاً فهو مفصل بهديه عليه الصلاة والسلام.
لكن الذين يقولون: لا يشترط التكرار، عندهم دليل آخر، فيقولون: إنه أقر، ثم رجع، ثم أقر، وأنتم تقولون: لابد أن يكون في مجلس واحد، والشهود لابد أن يكونوا أربعة في مجلس واحد، وهذا استدلال قوي، لكن رد بقول الراوي:(فرجع غير بعيد)، بمعنى: أنه ما زال في المسجد، وتتفرع عليه المسألة التالية: المسجد في حكم المجلس الواحد في القضاء، ولا يعتبر مفارقاً لمجلس القضاء ما دام أنه داخل المسجد.
فالشاهد أن المسألة خلافية بين العلماء رحمهم الله ولكلا القولين ما يدل عليه، وإن كان تكرار الإقرار فيه دقة أكثر، وفيه رعاية لظاهر السنة والعمل بها.
واستدلوا أيضاً بأن المرأة التي اعترفت بالزنا قالت:(يا رسول الله! أتريد أن تردني كما رددت ماعزاً؟!) فهذا يدل على أنه لا يُشترط التكرار، لكن أُجيب بأن التكرار على صورتين، منها: هذه الصورة، أي: أنني مستعدة أن أرجع وأكرر إقراري لك ولو رددتني مائة مرة، فقالت:(أتريد أن تردني كما رددت ماعزاً؟!) فبينت أنها مستعدة أن تكرر الشهادات، وهذه بمنزلة تكرار الإقرار، فالاستنباطات الشرعية من النصوص فضل من الله عز وجل لأهل العلم، والخلاف بين العلماء ما هو إلا رحمة من الله عز وجل إذا ثبتت به النصوص وجاءت به النصوص الشرعية؛ لأنه يجعل الشريعة شريعة مرنة واسعة بالاجتهادات والأقوال والردود والمناقشات التي تتفجر بها ينابيع الحكمة التي لا يمكن أن تصل إليها بقول واحد، ولذلك تجد هذه الشريعة صلحت في كل زمان ومكان، واستطاعت في أوج عظمة الإسلام أن تحكم من المحيط إلى المحيط، وهذا يدل على مرونة الشريعة الإسلامية؛ فمجيء الشريعة بالنصوص التي تحتمل أكثر من وجه معناه: أنها تقر الخلاف السائغ، لا الخلاف المذموم وهو الذي يقوم على رد النصوص الصحيحة الصريحة، والعبث بالأدلة والأهواء والآراء الفاسدة، أما الاستنباطات الشرعية من النصوص الشرعية والخلاف الشرعي الذي وقع بين الأئمة فهو رحمة؛ لأنه مبني على نصوص شرعية، وما كان من الشريعة فهو رحمة:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:١٠٧]، وعلى كل حال هذه المسألة كما ذكرنا فيها خلاف بين العلماء، وسيأتي إن شاء الله تفصيلها في مسائل الإقرار، والله تعالى أعلم.