قال رحمه الله:[ويَطهُر بول غلامٍ لم يأكل الطعام بنضحه] لما قال: (بول غلام) عرفنا أن عذرته لا تطهر إلا بالغسل، فمفهومه أن العذرة لا تطهر إلا بالغسل.
[غلام]: فهمنا أن الأنثى والصبية لابد فيها من الغسل؛ ودليل هذه المسألة ما ثبت في حديث أم المؤمنين عائشة لما جاءت أم قيس بصبيها ورفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأجلسه في حجره، وكان صلوات الله وسلامه عليه يؤتى بالمولود فيحنكه ويدعو له بالخير صلوات الله وسلامه عليه، وهذا من مكارم خلقه صلوات الله وسلامه عليه، فأجلسه في حجره كأنه ابنه، فلما أجلسه في حجره بال في حجر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلما بال فيه قالت أم المؤمنين:(فأخذ ماءً فرشه) وفي رواية: (فنضحه ولم يغسله) كما هي رواية السنن، فهذا الحديث يدل على أن بول الغلام يرش وينضح، والنضح: أن تأخذ كفاً من ماء وترش به، وأما الغسل فإنك تصب وتعمم الموضع بالماء، فالرش والنضخ أخف والغسل أثقل، فخُفف في نجاسة بول الغلام، وجاء حديث علي رضي الله عنه يؤكد هذا المعنى، فكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا وقاله بلسانه:(يُغسل من بول الجارية، وينضح من بول الغلام) وهذا القول هو قول الجمهور من العلماء، وممن قال به أيضاً: أهل الحديث.
وهنا مسائل: المسألة الأولى: أن الحكم يختص بالغلام الذي لم يأكل الطعام، أي: مدة الرضاعة، فإن فُطِمَ فإنه يجب غسله؛ وحديث علي نص في الغلام الذي لم يأكل الطعام، ولذلك يقولون: إذا فطم وانتهت مدة الرضاع فيجب غسل بوله كالجارية سواءً بسواء، وهنا يرد السؤال عن مسألة: لماذا فرق بين الغلام وبين الجارية؟ أولاً: ينبغي على المكلف أن يسلم بالشرع، وألا يتكلف البحث عن العلل، وأن يتعبد الله عز وجل بما ثبت به دليل الكتاب والسُّنة؛ وقال الإمام الشافعي رحمه الله: على الله الأمر وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ، وعلينا الرضا والتسليم، ولذلك من كمال إيمان المكلف أنه إذا جاءه الحكم قال: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير، وأثنى الله على هؤلاء الذين يسلمون، ولا يتكلفون في بحث العلل والتقصي فيها؛ لكن العلماء ذكروا العلة هنا لكي يقيسوا عليها حكماً آخر، أي: أنهم يحتاجون لهذا التعليل فإن وجدت الحاجة للتعليل فلا حرج.
وللعلماء في التحليل أوجه: قال بعض العلماء: خفف في بول الغلام وشدد في بول الجارية لذات البول، فإن بول الجارية أثقل من بول الغلام؛ ولذلك خفف فيه أكثر من بول الجارية، فبقي بول الجارية لمكان حرارته، فقالوا: إنه يجب غسله وأما بول الغلام فإنه ينضح.
الوجه الثاني: خفف فيهما لصورة البول.
فالأول قال: لذات البول، والثاني يقول: لصورة البول، قالوا: لأن بول الغلام لا ينتشر وبول الجارية ينتشر، وهاتان العلتان ضعيفتان، فأما علة من قال: إن بول الجارية أثقل من بول الغلام، فهذا محل نظر، حتى أن بعض الأطباء تكلم على هذا، وأما من قال: إن بول الغلام لا ينتشر وإنما يكون منحصراً، وبول الجارية ينتشر فهذا أمر عجيب؛ لأن الغلام حينما يؤتى غالباً إنما يوضع في لفافة أو خرقة، فلما وضع في حجر النبي صلى الله عليه وسلم بال، فلو قال قائل: يمكن أنه كان عارياً، فنقول: هذا بعيد؛ لأنه من المعلوم أن الغلام إذا ذهب به إلى أهل فضل أو نحوه فإنه يكون ملفوفاً في لفافة أو نحوها، ولذلك نقول: هب أنه على النادر كان منكشف العورة، فإنه إذا بال سينتشر بوله؛ لأن الثوب يسمح بالانتشار كبول الجارية في الموضع، فالتعليل بكونه لا ينتشر أضعف من التعليل بكونه أخف وأثقل.
وأقوى العلل هو القول الثالث: أن الشرع خفف في بول الغلام أكثر من الجارية؛ لأنهم كانوا يحملون الغلمان أكثر من الجواري في محضر الناس، وكانوا يتعاطون الكمال في إخفاء المرأة، فكانوا يحملون الصبيان ويحضرونهم إلى المجالس أكثر، وقد يحضرون الفتاة -كما في حديث أمامة لما حملها النبي صلى الله عليه وسلم- ولكن هذا في النادر فخفف من أجل هذا، هذا بالنسبة لقضية بول الغلام وبول الجارية.
وكما قلنا الحكم يختص بالبول، فلا يسري إلى دمه، فلا يقال مثلاً: في دم الغلام ينضح وفي دم الجارية يغسل؛ لأن الحكم خرج من صورة الأصل؛ والقاعدة:(أنه إذا ورد الحكم مستشنىً من الأصل فإنه يبقى على الصورة التي ورد بها الشرع ولا يقاس عليها غيرها).