[حكم زيارة الأم أولادها إذا كانت سيئة الأخلاق]
السؤال
إذا كانت الأم سيئة الأخلاق فهل لها الحق في زيارة بناتها، علماً أن الأب يخاف على بناته؟ أثابكم الله.
الجواب
على كل حال، لا يستطيع أحد أن يفرق بين الأم وولدها، الأم لا بد أن ترى أولادها، ولابد أن تمكن من زيارة أولادها، أما سيئة السمعة أو سيئة اللسان، فشرها على نفسها، ولا يوجد أعظم من الشرك، وقد جاءت أم أسماء رضي الله عنها وأرضاها إلى بيتها فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تبرها وتحسن إليها وتكرمها.
وليس هناك أعظم من قول الله عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [لقمان:١٥] (جاهداك) أي: أنهم بذلوا غاية الجهد، {عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، وليس هناك أعظم من حق الله عز وجل، وليس هناك ذنب ولا فساد ولا ظلم أعظم من الشرك، ومع ذلك: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:١٥]، فإذاً: لا يستطيع الإنسان أن يتدخل في هذا الحق الذي أمر الله عز وجل به.
نحن لا نقول: تجلس البنات بطريقة تفسدهن الأم، ولكن الناس يبالغون في أوصاف الأشياء طلباً لأحكامٍ توافق آراءهم وأهواءهم، لا يريد الأم أن تدخل البيت، وهو يريد أن يأخذ بذلك حكماً شرعياً ينسب إلى شرع الله عز وجل ودين الله، هيهات! نقول له: تعال، ما الذي تخشى؟ يقول: أخشى أن تفسدهن، نقول: إذا جاءت الأم فاجلس في ناحية البيت واسمع ما تقول، هل تفسدهن أو تأمرهن بشيء، أو تجلس معها امرأة تثق بها، هناك مائة حل موجود، لكن أن تبطل الأصول وتهدم القواعد الشرعية لقضايا عينية، ولأسباب موجبة للاستثناء من هذه الأصول، نحن نقول: هذه عوارض تعالج بما يندرئ به الشر ويتحقق به الخير.
والأم إذا أرادت أن تزور أولادها فتمكن من زيارة أولادها، ثم إذا كان هناك ضرر فتمكن بطريقة لا ضرر فيها، وحينئذٍ أخذ الوالد حقه، فصان ولده، وأخذت الأم حقها فرأت أولادها وبروها وأحسنوا إليها، والعجيب: أنك تجد الأم من شر خلق الله، في إساءتها وإضرارها، ولكنها إذا رأت أولادها وحاول أولادها يحسنون إليها أو يحتوونها، فإنه يخف شرها ويندرئ بلاؤها، فإن كثيراً من الأمور والشرور تندرئ إذا تعقل الإنسان وعالج السيئة بالحسنى، ولكنَّ كثيراً من الشرور تعظم وتتفاقم إذا أطفئت النار بالنار، فالأم تمنع من أولادها فتزداد حقداً وسوءاً وشراً.
والغريب أن الإنسان إذا أنصف وأعذر، هان عليه كثير من الأشياء.
أذكر ذات مرة أن أناساً اشتكوا من امرأة جاءت مع ولدها وهو مصاب بحادث، وإذا بها سيئة مع من معها ومن بجوارها، والكل يشتكي منها، وشاء الله عز وجل حينما جئت من العمل فسمعت وسلمت على الإخوان هناك من باب الزيارة، ففاتحوني في الأمر واشتكوا، فقلت لهم: يا إخوان! اتقوا الله في هذه المرأة، المرأة تخرج عن طورها وتسوء أخلاقها تحت ضغوط وظروف، هذه امرأة ولدها له تقريباً تسعة أشهر بين الحياة والموت، وقع عليه حادث فأغمي عليه، فشلت أطرافه كلها، وما استطاع أن يحرك شيئاً.
وأيضاً قطعت المرأة هذه البحار كلها من أجل أن تعالجه مع زوجها، ثم رماها زوجها وأهمل ولدها؛ وهذه بعض الظروف التي لاقتها هذه المرأة، ولو مرت هذه الظروف على رجل لانهدت عزيمته وخارت قواه، فكيف بامرأة؟ فقلت: يا إخوان لا يصلح هذا، ليست هذه هي الطريقة التي تعالج بها الأمور، الإنسان عندما ينظر إلى شر غيره أن يبحث عن أسباب ذلك.
الولد تجده يفعل الأمور التي لا تفعل، لكن حينما تفتش عن أسباب قد تكون تافهة تعالجها فتستقيم الأمور، وكم من أناسٍ يخرجون من عقولهم وأطوارهم بظروفٍ وضغوط معينة، فهل هناك أم سيئة الأخلاق مع ولدها؟ الغالب لا، فلابد أن يوجد شيء لا معقول؛ لأنها خرجت عن العقل والفطرة، فلا بد من وجود شيء قاهر يقهرها حتى أنها خرجت عن هذه الفطرة، وهذا في الغالب.
ولذلك ينبغي أن تعالج الأمور، وهذا هو شأن الرحماء والعقلاء والحكماء، وبالأخص أهل العلم وطلاب العلم والمفتون ونحوهم، فلا يستعجلون في إصدار الأحكام، فقد يأتي الشخص للقاضي ويتظلم، ويذكر كثيراً من الصفات الشنيعة، وقد يأتي للمفتي وقد هيأ كثيراً من الأسباب، الزوج يشتكي من زوجته أنها تفعل وتسب وتشتم، وقد يكون هو السبب في السب والشتم والأذية والإهانة والإضرار، ارجع إلى الوراء واسأله كيف كان يعاملها، وكيف كان يأخذ ويعطي معها، وسوف تجد لماذا خرجت هذه المرأة عن طورها! وكثيراً ما نجد السائل يعطيك صورة بشعة للطرف الثاني من أجل أن يصل إلى غرض معين تحت حكم الله عز وجل ورسوله وهيهات! فعلينا أن نتقي الله عز وجل وأن نعدل.
ثانياً: المبالغة في الأوصاف في المسائل، فقد يقول لك مثلاً: هذه أم شريرة أو أم سيئة أو أم كذا أو أم كذا، كثيراً ما يمر بي بعض الأشخاص ويقول: فلانٌ شرير، أقول له: ماذا عرفت من شره، فيظل يتذكر، مما يدلك على أنه يريد غرضاً معيناً، ويجلس يبحث، ثم إذا جاء يقدم لك بدأ يقدم لك شيئاً ليس بذاك.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: حضرت قاضياً جاءه رجل فطعن في الشاهد، فقال له القاضي: لا أقبل حتى تبين بماذا تجرحه؟ فقال له: أنا أعلم الذي يجرح من الذي لا يجرح، قال له: لا أقبل جرحك حتى تبين لي، قال: رأيته يوماً يبول قائماً، قال له: وما شأنه أن بال قائماً، قال: إنه إذا بال قائماً لطخ ثوبه وقدميه وصلى بغير طهارة، ثم قال له القاضي: هل رأيته فعل ذلك؟ قال: لا، قال: اسكت رحمك الله، ليس هذا جرحاً، بل هذا اختلاق الأشياء وتركيب بعضها على بعض، وهذا هو مصداق قوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ} [الأنعام:٤٣].
إذاً: ليس هناك شيء يهذب الإنسان مثل العدل، ولا يمكن أن يكون العدل من الإنسان في الحكم على الغير إلا بالخوف من الآخرة، فالشخص الذي عنده خوف من الآخرة هو الذي يعرف كيف ينصف إذا حكم أو قوم، بل إنك تجده أبعد الناس عن الكلام في الناس، ومن أسلمهم وأعفهم لساناً وأطهرهم جناناً وذلك من توفيق الله عز وجل.
فالمقصود: أن الحضانة لا يمكن أن يحال فيها بين الأمّ وأولادها، والواجب على الأزواج أن يتقوا الله عز وجل في زوجاتهم.
وأذكر ذات مرة قضية قريبة من هذا: وهي أن أمّاً مُنعت من زيارة بناتها، وفعلاً كانت شريرة وذات بأسٍ شديد، وشاء الله في يوم من الأيام أن جاءني أحد أقاربها واشتكى لي، وكان عاقلاً حكيماً منصفاً، فقلت: ما بها؟ قال: القضية كذا وكذا، فأراد أن يتدخل في الموضوع، فجيء بقرابة الزوج وكان الزوج معهم، فقال الزوج: هذه لا يمكن أن تدخل بيتنا ولا تزور أولادها، هذه تفسد وتفعل كذا وكذا، فقلت لهم: كم مرة زارت أولادها؟ فذكروا أن لها سنوات وكنت أظن أنها قريبة، فتبين أن لها سنوات وأنها جاءت مرات وكرات فمنعت، فسألتهم حينما تأتي تزور ماذا تفعلون؟ وإذا بها أمور لا تمت إلى الإسلام بصلة، إهانة وإذلال وإضرار وتضييق بطريقة عجيبة جداً، وكل هذا لا يرونه، لكن ينظرون أنها سيئة الأخلاق، لا ينظرون أنه ضيف نزل بيتهم وأنه ذو رحم: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:٢٣٧]، ويوجد فضل وقرابة بين الأسرتين.
فالشاهد: قلت: أريد والد الزوج على انفراد، وهذا أمر أوصي به دائماً في حلول المشاكل الزوجية أنها لا تحل بالعلن، بل تجلس مع كل شخص على انفراد، فقلت له: أتخشى الله والدار الآخرة، وتعلم أنك ستقف بين يدي الله، وخوفته بالله وبالدار الآخرة، وقلت له: أنت مسئول أمام الله؛ لأني أعلم أن له قوة على ولده وسلطة على البيت والأسرة، فقلت له: نعم، هناك أخطاء من أم الأولاد نظرتم إليها، ولكن أنتم عندكم أخطاء، والإنسان العاقل دائماً يبحث عن أخطائه عند الغير، فأخذت أبين له، والمقصود: أني قلت له: الآن تسمحون لها بزيارة أولادها ولكن بطريقة كذا وكذا، وطبعاً مرت بهم ثلاثة أسابيع تقريباً وما جاء بعد شهر ومن فضل الله سبحانه وتعالى صلحت الأسرتين وحسنت الأحوال، وأصبحت الأم كأحسن ما أن تراها في خلقها وهي تدخل البيت، وكلهم مجمعون على أنها كانت شريرة تؤذي وتضر فالشاهد أنها حينما أكرمت وأعطيت حقوقها، ووضعت في مكانتها، استحت وكسرت عينها، وأصبحت تقلل من شرها رويداً رويداً، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه) فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يعيذنا من منكرات الأخلاق والأدواء، والله تعالى أعلم.