[حكم بيع التورق]
قال: [أو من غير مشتريه].
كأن تشتري من المعرض السيارة بمائة ألف إلى نهاية السنة أو بمائة ألف مقسطة ثم تذهب وتبيع لطرف آخر، وهذا ما يسمى ببيع (التورق) وهو أن تشتري السلعة لا لذات السلعة وإنما من أجل الورق، ومثاله: أن تطرأ عليك ظروف، كأن يكون الإنسان محتاجاً لزواج أو محتاجاً لسداد دين أو محتاجاً لعلاج فلا يستطيع أن يذهب إلى الناس ويطلب منهم الدين أو لا يجد من يدينه، فيذهب ويشتري سيارة ويقسطها ويأخذ هذه السيارة بمائة ألف مثلاً، ثم يبيعها نقداً إلى غير المعرض الذي اشترى منه أو إلى غير الشخص الذي اشترى منه، فيجوز حينئذٍ ولا بأس، سواءً باع بنفس القيمة أو بأقل أو بأكثر، والسبب في هذا أنه لا شبهة للربا في هذا النوع من البيوع؛ لأنك حينما تشتري السيارة بمائة ألف إلى نهاية السنة، فإنه يجوز زيادة المال لقاء الأجل في البيع، وبيع التقسيط جماهير السلف والخلف على جوازه؛ لأن هناك نصوصاً قوية تدل على جوازه، ومنها: مكاتبة العبيد في القديم، قال تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:٣٣] والكتابة كانت بالأقساط، وتكون قيمته مفاضلة لقاء الأجل، والدليل حديث بريرة مع عائشة رضي الله عنها وأرضاها في قصتها فإنه كاتبها أهلها بالأقساط وقالت لها عائشة: (إن شئت نقدت الثمن)، وهذا بيع إلى أجل بأقساط، وعلى هذا فإننا نقول: لا بأس أن تبيع حاضراً وأن تبيع إلى أجل بالتقسيط؛ لكن بشرط أن يفارقك بعد أن يبت البيع، وسنبين هذه المسألة في مسألة بيعتين في بيعة، والتي سيذكرها المصنف في الباب الذي يلي هذا الباب، إن شاء الله.
إذاً لو أن رجلاً باع السيارة إلى غير المعرض الذي اشترى منه، فإنه يجوز حينئذٍ؛ لأنه لا شبهة في هذا النوع من البيع، وقال بعض العلماء: بتحريم هذا النوع من البيع، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، قالوا: لأنه في هذه الحالة كأنه يأخذ المعجل الذي هو الأربعين ألفاً في مقابل المؤجل الخمسين، فيصبح كأنه يعاوض مع التفاضل؛ ولأنه لم يشتر السلعة لذاتها وإنما اشتراها من أجل المال، ولذلك سموها (مسألة التورق)، وجمهور العلماء على الجواز، وكان شيخ الإسلام رحمه الله يفتي بالتحريم، وروجع في هذه المسألة أكثر من مرة، والذي يظهر رجحان مذهب الجمهور لما يلي: أولاً: لعموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:٢٧٥] وقد ذكرنا أن العلماء قالوا: إن هذه الآية عامة وهي حجة لكل من يقول: البيع صحيح وجائز حتى يقوم الدليل على التحريم.
ثانياً: أما التعليل عند من يحرمه بأنه إنما يريد الخمسين المعجلة لقاء المائة المؤجلة فنقول: إن شراء السلعة من أجل الثمن لا بأس به إذا كان طرفا العقد في البيع الأول والثاني مختلفين.
وتوضيح ذلك: أننا لو قلنا: إن العلة كونه يشتري من أجل المال لحرمت التجارات كلها؛ لأنه ما من تاجر يشتري السلعة إلا وهو يريد المال ولا يريد السلع، فهو حينما يشتري ألف كيس من الأرز مثلاًً، أو مائة كيس من البر فإنه لا يريد البر ولا الأرز؛ وإنما يريد أن يدفع الألف لقاء ألف وخمسمائة يكسبها، أو يشتري مثلاً سيارات بمليون وهو لا يريد السيارات ولا يريد أن يركبها كلها؛ وإنما يريد أن يبيع هذه التي اشتراها بالمليون بربح.
فلو قلنا: إن شراء السلعة من أجل المال سواء كان بالأقل ومعاوضة بالأكثر أو بالأكثر ومعاوضة بالأقل يقتضي التحريم لحرمت التجارات، وعلى هذا: ضعفت هذه الشبهة وهي قولهم: إنه اشترى من أجل المال وأخذ الكثير وعاوض بالقليل، وهذه صحيح في حال لو كان الشخص الذي تشتري منه وتبيع له واحداً، لكن إذا اختلف الشخصان فحينئذٍ انتفت شبهة الربا، وحل لك أن تشتري بالكثير وتبيع بالقليل، كما حل للتاجر أن يشتري بالقليل ويبيع بالكثير؛ لأنك إذا اشتريت السيارة مقسطة تشتريها بالكثير، ويكون سعرها مقسطاً أعلى من سعرها نقداً، فحينئذٍ تبيعها وتأخذ القليل، فكأنك اشتريت بالكثير ورضيت بالقليل، اشتريت بالكثير الذي هو إلى أجل، وبعت بالقليل الذي هو النقد، والتاجر عكسك.
والربا -كما تعلمون- إذا كان في النقد وهو الريالات يستوي أن يشتري بالقليل ويبيع بالكثير أو يشتري بالكثير ويبيع بالقليل؛ لأن الربا واقع في الاثنين وهو ربا الفضل، فلو قيل: إن هذا من الربا لاقتضى هذا تحريم التجارة؛ لأنه يشتري بالخمسين ويبيع بالستين، يشتري بالقليل ويبيع بالكثير، ولذلك ذهب جمهور العلماء رحمهم الله إلى جواز هذا النوع من البيع بشرط أن تكون الصفقة لشخصين مختلفين.
لكن لو أنه اشترى السيارة من المعرض بمائة ألف إلى نهاية السنة، وجاء رجل هو وكيل لصاحب المعرض يريد أن يشتريها منه نقداً بأقل حرم البيع، فيستوي أن يبيع على صاحب المعرض أو يبيع على وكيل يوكله صاحب المعرض؛ لأنه من جنس ما ذكرناه من الربويات.
قال: [أو اشتراه أبوه أو ابنه جاز] مثلاً: إذا جاء المحتاج واشترى سيارة من المعرض بمائة ألف إلى نهاية السنة، فإذا اشتراها منه صاحب المعرض قلنا: لا يجوز، يرد
السؤال
ما الحكم إذا اشتراها والد صاحب المعرض أو ابنه؟ والسبب في تخصيص الأب والابن أن الشرع جعل الأب والابن كالشيء الواحد، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما فاطمة بضعة مني) ولذلك لا تجوز شهادة الوالد لولده ولا الولد لوالده، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) فجعل الابن والأب كالشيء الواحد، فهل إذا باع إلى والد صاحب المعرض أو إلى والد الذي باعه نسيئة وأراد أن يشتري منه نقداً فهل يكون بمثابة بيعه على صاحب المعرض نفسه أم أن الأمر يختلف؟ قال بعض العلماء: إذا باع إلى والده أو باع إلى ابنه جاز، كما درج عليه المصنف رحمه الله.