للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[إثبات قتل شبه العمد بدليل السنة]

السؤال

العلماء الذين لا يقولون بقتل شبه العمد، بماذا يجيبون عن حديث السنن وكذا الحديث الصحيح.

عن المرأة التي ضربت ضرتها بعمود فسطاط فقتلتها؟

الجواب

من أسباب اختلاف العلماء في المسائل: الاختلاف في ثبوت النص.

فمثلاً: الظاهرية لما لم يقولوا بشبه العمد، قالوا: إن الله عز وجل ذكر العمد والخطأ في القرآن، والحديث لا نصححه، وبناء على ذلك بقوا على الأصل، فقالوا: عندنا عمد وخطأ، ولا يثبتون قسيماً ثالثاً، وهكذا من يوافقهم من المالكية وغيرهم رحمة الله على الجميع، يرون أن الأصل في الكتاب العمد والخطأ، {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء:٩٣]، قالوا: هذا هو القسم الأول، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء:٩٢] هذا هو القسم الثاني، قالوا: ولم يذكر الله قسماً ثالثاً.

الجمهور فقالوا: إن السنة قد صحت بثبوت هذا القسم الثالث، والسنة تأتي بزيادة على القرآن، وبناء على ذلك نثبت ما أثبته النبي صلى الله عليه وسلم، وصحت به السنة عنه عليه الصلاة والسلام، كما في حديث المرأة التي رمت الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها -قصة المرأتين اللتين اقتتلتا- فإن هذا ليس قتل عمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل بحجر ولم يقتل بحجر، فجزمنا بأن الحجر الذي في قصة المرأتين المسلمتين ليس كالحجر الذي قتل به اليهودي الجارية، وإلا لكان هناك تناقض في الشريعة، والشريعة منزهة عن التناقض.

وهذا هو الواقع؛ فإن المرأة لما رمت بالحجر تسبب في سقوط الجنين وسقوط الجنين تسبب في موت المرأة، فالموت لم يأتِ بالحجر نفسه، ولابد أن ينتبه لهذا الاستلحاق، فإن الحجر أسقط الجنين، فأوجب الرسول صلى الله عليه وسلم فيه الوليدة الذي هو ضمان الجنين.

ولما كان هذا الإسقاط بالحجر ومثله لا يقتل غالباً، والإسقاط ليس بقتل، وهي لما رمتها بالحجر لم تقصد إسقاط جنينها ولم تقصد قتلها، فالقصد غير موجود حتى نقول: إنه عمد، وأيضاً الإسقاط غير مقصود حتى نقول: إنه أيضاً عمد، فمن هنا أوجب النبي صلى الله عليه وسلم فيها الدية، وقضى بالدية على العاقلة.

والدليل على أن هذا قتل ليس بعمد: أولاً: عدم وجود القصاص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم فيه بالقصاص، وثانياً: كما صرح الراوي وهو عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بدية المرأة على عاقلتها)، والعاقلة -كما سيأتينا إن شاء الله في باب الديات- لا تحمل دية العمد، فلو أن شخصاً قتل شخصاً عمداً -والعياذ بالله- وقال أولياء المقتول: نريد الدية، فلا نقول لجماعته وقبيلته أن يساعدوه؛ لأنهم لو ساعدوه لأعانوه على المنكر، وأعين على سفك الدماء بالباطل؛ لأن الأصل في القاتل العامد ألا تعينه العاقلة في الدية، والعاقلة والقبيلة والجماعة لا تحمل دية العمد، بمعنى: أن القاضي لا يلزمها بدفع الدية في العمد، وإنما يلزمها في الخطأ، وبناء على أن قتل المرأة -التي مرت معنا- خطأ، قضى النبي صلى الله عليه وسلم بديتها على العاقلة، فلما قضى عليه الصلاة والسلام بالدية على العاقلة أدركنا أن القتل خطأ وليس بعمد.

والله تعالى أعلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>