قال المصنف رحمه الله:[ولا تكره القراءة على القبر].
المراد بالقراءة: قراءة القرآن، وجمهور العلماء من السلف رحمة الله عليهم كالحنفية والمالكية والشافعية وطائفة من أصحاب الإمام أحمد -وهي الرواية الثانية عنه- على أنه لا تشرع القراءة على القبور؛ وأنها من الحدث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ على قبور أصحابه، ولا قرأ أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا من بعدهم من السلف الصالح من الأئمة ومن أُمرنا بالائتساء بهم، فحينئذٍ فإن هذا الفعل يعتبر من البدعة والحدث.
وجاءت رواية عند الإمام أحمد أنه رخص في ذلك، وفي ذلك ما يحكى عن ابن عمر رضي الله عنهما.
والصحيح مذهب الجمهور: أنه لا تشرع القراءة على القبر؛ فإن وقعت إجارةً كأن يستأجر مقرئاً يقرأ على القبر، فالإجماع قائم على المنع والتحريم، وإنما الخلاف في المحتسب، وهو الذي يقرأ على القبر تبرعاً، أما من استؤجر للقراءة فإن الإجماع منعقد على أنها إجارة باطلة، وفي ذلك حديث (يس)، أنه إذا قرئ على القبور (يس) أنه يخفف عنه ذلك اليوم، ويكون له من الحسنات والأجور على عدد الموتى، وهو حديثٌ ضعيف.
والصحيح الذي هو من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن السنة إذا قُبِر الميت أن يقام على قبره، وأن يدعى له؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما انتهى من دفن الميت:(استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل) فدل على أن المشروع هو الدعاء، وهذا هو ظاهر التنزيل في قول الحق تبارك وتعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ}[الحشر:١٠] فدل على أن المشروع هو الدعاء، والدعاء أنفع وأصلح للميت والحي: أما للميت فلأنه رحمة جعلها الله للأموات عند الأحياء؛ ولما يكون بسبب هذا الدعاء من الخير له؛ فيفسح له في القبر وينور له فيه، خاصةًَ إذا كان الداعي مخلصاً لله عز وجل.
وفيه مصلحةٌ للحي؛ لأن الحي يكتب الله أجره بإحسانه لأخيه المسلم ودعائه وترحمه واستغفاره له؛ ولذلك وصف الله الأخيار بأنهم يترحمون على إخوانهم الأموات الذين سبقوهم بالإيمان، ومن حق المسلم على المسلم بعد موته أن يترحم عليه وأن يدعو له وأن يستغفر له.
أما بالنسبة للقراءة فقلنا: إن الصحيح أنها لا تشرع، لا تخصيصاً بسورةٍ معينة ولا تشرع عموماً، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتأمل لفعله صلوات الله وسلامه عليه وهديه يعلم علماً واضحاً بيناً أنه لا يشرع أن يقرأ على القبر؛ لأنه لو كان مشروعاً لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولفعله من بعده من الخلفاء الذين أمرنا بالاستنان بسنتهم، فحيث لم يفعل ذلك لا من رسول صلى الله عليه وسلم ولا من الخلفاء الراشدين، فإنه يبقى على الحظر؛ لأن أمور العبادة توقيفية، ولا يجوز لأحدٍ أن يجتهد فيها ولو كان الأمر مستحسناً.