للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تحقيق القول في جلسة الاستراحة]

مسألة جلسة الاستراحة للعلماء فيها وجهان: فمنهم من قال: هي سنةٌ مطلقاً للكبير والصغير، واحتجوا بحديث مالك بن الحويرث، وما جاء في بعض روايات حديث أبي حميد الساعدي، وما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علّم المسيء صلاته أمره بهذه الجلسة، ولكن هذه الزيادة في حديث أبي هريرة في صحيح البخاري ضعيفة، ونبَّه على ضعفها غير واحد كما أشار إليه الحافظ ابن حجر رحمةُ الله عليه، هذه الزيادة من أمره عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته بعد فراغه من السجدة الثانية أن يرجع ضعيفة، والأقوى فيما اعتمده الإمام الشافعي رحمه الله في إثبات هذه الجلسة -وهو وجهٌ عند الحنابلة- حديث مالك بن الحويرث، وهو حديث صحيح لا يختلف اثنان في ثبوته، ولكن الإشكال أن مالك بن الحويرث قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر عمره بعد عام الوفود.

وثبت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه في آخر عمره أخذه اللحم، بمعنى أنه بدُن وثَقُل صلوات الله وسلامه عليه، كما في حديث عائشة: (فلما سن وأخذه اللحم) ولذلك كان يصلي في قيام الليل جالساً، حتى إذا قرُب من قدر مائة آية قام وقرأها ثم ركع.

فقالوا: كونه يراه في آخر عمره بهذه الصفة يدل على أنه كان يفعلها لحاجة، فهي سنةٌ للمحتاج، إما لضعفٍ أو مرضٍ أو كِبَر، ولكن الحدث والقادر فإنه يقوم مباشرة.

وهذا القول هو أولى الأقوال، وهو مذهب المالكية والحنفية، وقولٌ عند الحنابلة رحمة الله عليهم، والدليل على ذلك أنه ثبت عندنا أمر في حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثم ارفع)، وهذا بعد السجود، وهو في الصحيحين، والأمر يقتضي الوجوب.

وحديث مالك متردد بين أن يكون سنةً جبلِّية لمكان الحاجة، وبين أن يكون سنةً تشريعية للأمة، ولمكان هذا الاختلاف فإنه يُبقى على الأصل من كونه يقوم مباشرةً، ومن تأول هذه السنة وفعلها أيضاً فلا حرج عليه، فلو ترجح عند الإنسان الأخذ بحديث مالك بن الحويرث واعتبرها سنةً مطلقة فإنه لا حرج عليه ولا يُنكر عليه، وكلٌ على سنة وخير.

فالأصل عند سلف الأمة رحمةُ الله عليهم أنه لا يُشنَّع عليه ولا يُبدَّع، ولا يؤذى من تأول سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعنده سلفٌ من هذه الأمة يقول بقوله، فلا حرج على من جلس وهو يتأول السنة، ومثابٌ إن شاء الله، ولا حرج على من قام وهو يتأول السنة.

ولكن لو ترجح عند الإنسان أن جلسة الاستراحة تعتبر سنة فالأفضل له أن لا يداوم عليها؛ لأن كون الصحابة كـ ابن عمر وأبي هريرة وأنس، والذين هم محافظون على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقومون بعد السجود مباشرة، ولم يُحفظ عن واحدٍ منهم أنه كان يجلس هذه الجلسة يدل ويؤكد على أنها على الأقل لا يُوَاظَب عليها؛ لأنه لو وُوظِب عليها لانتشر ذلك وذاع بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك الأولى والأحرى أن الإنسان إذا تأوّل اعتبارها أن لا يداوم عليها، وإنما يفعلها أحياناً.

وهنا مسألة وهي: لو ترجح عند الإنسان أنها سنة، فإذا سها مرة فظن أنه في الركعة الثانية، فلما رفع من السجود وفي نيته أن لا يجلس جلسة الاستراحة، فكان عليه أن يقوم، فجلس ناوياً التشهد، ثم تذكر أنه في الركعة الأولى، فهل تنقلب إلى جلسة استراحة، أو تعتبر عملاً زائداً في الصلاة ويسجد للسهو؟

و

الجواب

لو أنه ابتدأ بالتشهد وتكلم فلا إشكال، لكن قبل أن يتكلم بالتشهد إن تذكَّر ثم قام فالذين يقولون: لا تشرع جلسة الاستراحة للحدث عندهم وجه واحد وهو أنه يسجد سجود السهو.

والذين قالوا بمشروعية جلسة الاستراحة اختلفوا: فقال بعضهم: يسجد للسهو؛ لأنه لم يفعلها بقصد السنية، وإنما فعلها على سبيل السهو، والسجدتان جابرتان لهذا النقص.

وقال بعض العلماء: إنها تنقلب جلسة استراحة؛ لأن سجود السهو إنما شُرِع لزيادة وهو في الحقيقةِ لم يَزِد، وهذا مبني على أصل، هل يغلّب الظاهر أو الباطن؟ إن قلت: يُغلَّب الباطن لزمه سجود السهو؛ لأنه في الباطن يَعتقد أنها جلسة التشهد، وإن قلت: يُغلَّب الظاهر فإنه في هذه الحالة لا يلزمه أن يسجد؛ لأن الظاهر معتبرٌ مأذونٌ به شرعاً.

والوجهان ذكرهما الإمام النووي رحمه الله، وغيره من أصحاب الشافعي الذين يقولون بمشروعية جلسة الاستراحة، وكلا الوجهين من القوة بمكان، لكن القول الذي يقول: إنه يسجد للسهو أقوى من ناحية النظر.

<<  <  ج:
ص:  >  >>