للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الألفاظ الدالة على الظهار]

قوله: [بقوله لها: أنتِ عليّ أو معي أو مني كظهر أمي].

قول المظاهر: أنتِ عليّ، أو: معي، أو: مني، أو: عندي، أو: لي كل هذا يعتبر دالاً على الظِهار.

وكذلك قوله: أنتِ كأمي دون قوله: عندي، ولا: معي، ولا لي، فسواء أذكر هذه الصفة أم لم يذكرها فالحكم واحد ويقع الظهار.

قوله: [أو كيد أختي] الأصل أن يذكر الظهر، وما لا ينفصل يكون حكمه كحكم الظهر.

قوله: [أو وجه حماتي].

الأم هي الأصل، وتمثيله بالأخت والحماة فيه نوع من التسلسل في الأفكار عند الفقهاء رحمهم الله في المتون الفقهية، وهذا يزيد طالب العلم فائدة، ويزيده علماً وبصيرة إذا أراد أن يخطب، أو يفتي، أو يوجه، أو يعلم، والعلماء بعض الأحيان يذكرون أشياء عجيبة، لكن يقصدون مغزىً ومعنى، وهذا نبهنا عليه أكثر من مرة.

فقوله: [ظهر أمي] المراد بذلك القاعدة المتفق عليها والمجمع عليها، وهي أنه إذا قال: كظهر أمي فهو ظهار.

ثم قال: [كيد أختي] فخالف في العضو الذي هو الظهر فاختار اليد، وخالف في الذات التي هي الأخت، فهذا مثال للمحرمة من جهة النسب من غير الأمهات.

فجمع لك بين الأمرين، فتفهم منه أنه لا يشترط أن يذكر الظهر، وأنه يمكن أن يذكر بدلاً عنه أي عضو بشرط أن يكون متصلاً، وكذلك أيضاً لا يشترط أن يكون الظِهار منحصراً في الأم، ولذلك قال: [كيد أختي].

وقوله: [أو وجه حماتي] لو قال: كيد حماتي ربما شك شاك أن العضو ينفصل في اليد، لكن قال: [كوجه] فانتقل إلى الوجه، والحماة: هي أم الزوجة، والأحماء: هم أقارب الزوجة.

فقوله: (كوجه حماتي) استفدنا منه أنه لا يشترط العضو في المشبه به، ثانياً: التشبيه بالمحرمة من جهة السبب، وهنا استدرك بعض المتأخرين رحمة الله عليهم على المصنف فقالوا: كان الذي ينبغي أن يقول: بنسب أو سبب، أو رضاعة، فيذكر السبب.

والحقيقة أنه لو ذكر السبب كان أفضل في الإشارة إلى المحرمات من جهة المصاهرة، لكن لما قال: [وجه حماتي] كان هذا بديعاً منه في الدلالة على أنه يرى أن المحرمات من جهة المصاهرة كالمحرمات من جهة النسب والرضاع.

وبعض العلماء ربما يذكر في المتن قسيمين يدخل بينهما ثالث ولا ينبه على الثالث من باب الذوق في الألفاظ، فالعلماء رحمهم الله كانت عقولهم فذة في صياغة الكلام، لكن فرق بين أن تصاغ هذه المتون لقوم يعقلون يعرفون هذه النكت والأفكار، وبين من يتهجم أو يأتي يستدرك ويلاحظ، فيقول: هذا خطأ، وهذا كذا.

إلخ، وهذا ليس إلا نوعاً من اللطائف البديعة.

فيذكر النسب ويذكر الرضاع والقسيم الثالث داخل بينهما من جهة السببية، وبعض الأحيان إذا ذكروا الرضاع مع النسب ينبهون على أن السببية تابعة له، خاصة في مسائل النكاح، لكن كما قال تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:١٠].

فهؤلاء العلماء رحمهم الله يُحذَّر من الاستدراك عليهم والتعقيب عليهم، خاصة إذا اشتمل الاستدراك على التهجين لرأيهم، نسأل الله السلامة والعافية، بل كانوا رحمهم الله على دقة، وأحياناً يتركون الأمور الظاهرة والأمور الخفية لأجل مخاطبة العلماء؛ لأن هذه الكتب غالباً ما كان يقرؤها إلا العلماء.

ولذلك تجد العالم لما يأتي إلى تلك المتون يجد أمراً معتاداً، وطالب العلم المتمكن يجد أمراً يعمل فيه فكره أكثر، فيتعود على الدقة.

ومن الفوائد التي أوصي بها طالب العلم، وأوصي بها كل شخص يتحرى الحق والصواب أنه من المجرب أنك إذا قرأت تآليف العلماء -وأقصد العلماء الأئمة الجهابذة خاصة أئمة السلف- وكان عندك اعتقاد في قرارة قلبك بعلمه وفضله ودقته وتركيبه للمسائل، ووجدت شيئاً في ظاهره الخطأ ستتعب في تحصيل السبب وكشف الأمر الذي من أجله أغفل هذا الأمر الذي لا ينبغي إغفاله، أو ترك ذكر هذا الشيء الذي ينبغي ذكره، فما إن تعمل فكرك وأنت عندك هذا الشعور إلا تفتح لك من العلم والفهم ما الله به عليم.

وهذا شيء نحن جربناه ووجدناه، والعكس، فلن تجد شخصاً -والعياذ بالله- لا يقدر أهل العلم، ولا ينظر إليهم بما هم أهله، خاصة أئمة السلف، إلا وجدته سريع التخطئة، عجلاً في الفهم، قاصراً في الإدراك، بعيداً عن مستوى الأذكياء؛ لأنه لا يفهم العالم إلا عالم، ولا يعرف الفضل إلا أهله، وهذا من أراد أن يجربه في نفسه، أو في من يتعقب غيره أو ينتقد غيره سيجده جلياً.

ومن أغرب ما ذكر لي أن شخصاً كنت أعرفه -نسأل الله السلامة والعافية- من بعض طلاب العلم، كان بعض مشايخنا يحذره كثيراً، وكان كثير الجرأة على تخطئة العلماء رحمهم الله وتتبع عثراتهم.

فذات يوم كان يقرأ في كتاب (الإمامة) فقرأ قوله: (فإن استووا في القراءة فأطولهم ذكْراً -أي: لله عز وجل- فصحفها وقال: فأطولهم ذكَراً، وأخذ يشنع على من قال هذا فنحن نقول هنا: لما ذكر المصنف النسب وذكر الرضاع فالقسيم الثالث لهما وهو السببية داخل في التحريم، فلو أنه شبهها بهن فالمعنى موجود في المحرمات من جهة السبب كالمحرمات من جهة النسب.

وقوله: (ونحوه).

نحو الشيء مثله، أو شبيهه، المراد: نحوه في الجانبين في الأعضاء، وفي التحريم، فنحوه في الأعضاء كاليد والرأس والرجل والظهر وغيرها من الأعضاء المتصلة، ونحوه في المحرمات كالأخت والعمة والخالة وغيرها.

<<  <  ج:
ص:  >  >>