[افتراق المتصارفين قبل قبض الكل أو البعض]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: ومتى افترق المتصارفان قبل قبض الكل أو البعض بطل العقد فيما لم يقبض]: فإذا صرف الريالات بالدنانير أو بالدولارات أو بالجنيهات، فإنهما متصارفان، كل منهما يريد أن يصرف ما عنده بالذي عند الآخر، فقال رحمه الله: (متى افترق المتصارفان) ولم يقبضا (بطل العقد) فيهما، سواء في الريالات أو الدولارات، لكن لو لم يقبض أحدهما جزء الثمن المدفوع في مقابل نقده، أو لم يقبض الآخر معه، فإنه يبطل في الجزء الذي لم يقبض دون الذي قبض.
وبالمثال يتضح الحال: أولاً: إذا أراد أن يصرف فإما أن يصرف مع اتحاد العملة كما ذكروا، فمثلاً: معك خمسمائة ريال تريد أن تصرفها مئات أو خمسينات، فجئت إلى رجل وقلت له: اصرف لي هذه الخمسمائة، فقال: أصرفها لك بخمسمائة، لكن ليس عندي الآن، وسوف أعطيك بعد ساعة، فافترقتما ولم تتقابضا، فحينئذٍ بطل الصرف، ووجب عليه أن يرد لك الخمسمائة، فإن قبضت الخمسمائة في اليوم الثاني مصروفة وقع الربا الذي حرم الله ورسوله، فلُعن الآخذ والمأخوذ، نسأل الله السلامة والعافية.
إذاً: ينبغي للناس أن يتنبهوا لمسائل الربا؛ لأن الربا لا يتوقف على ريال بريالين أو تسعة بعشرة، التي هي الزيادة والفضل، بل يشمل حتى ربا النسيئة الذي يخفى على الكثير، ومن هنا قال بعض العلماء: إن الرجل قد يشيب عارضاه في الإسلام وهو يأخذ الربا، فيلعن صباح مساء؛ لأنه قصر في العلم والفهم.
فمسألة التقابض لابد منها، وللعلماء الوجهان المشهوران: الوجه الأول: لو صرفت الخمسمائة تأخذ بيد وتعطي بأخرى، وهذا أكمل ما يكون في الصرف، وهو العدل الذي لا يظلم فيه الصارف، ولا من أخذ منه، وهذا هو عين العقل والحكمة؛ لأنه ربما رمى الخمسمائة في صندوقه وقال: ما أعطيتني شيئاً، وأنكر؛ لأنه نسي؛ فقد تكون جئته أثناء شغله وأعطيته الخمسمائة فرماها في الصندوق، وقال: ما أعطيتني شيئاً.
وفي بعض الأحيان يقول: كم أعطيتني؟ فتقول: خمسمائة، فيقول: لا؛ بل أعطيتني مائة أو أعطيتني خمسين أو أعطيتني عشرة أو خمسة.
إذاً: العدل أن تعطي بيد وتقبض بأخرى، وهذا هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء).
فأنت إذا أعطيت الخمسمائة بيد وقبضت الخمسمائة التي بيدك ضمنت حقك، ومن العدل مادمتما تتبايعان وتتعاوضان أنك كما أعطيته الخمسمائة يعطيك الخمسمائة؛ لأنك أعطيته حقه كاملاً، فوجب أن يعطيك حقك كاملاً.
فلو قال لك: أنا آخذ الخمسمائة الآن وتأخذ مني غداً، أو آخر النهار، أو ليس عندي الآن صرف، فحينئذٍ يقع الربا ولو افترقا لحظة واحدة، فبمجرد أن يتفارقا يحصل المحظور الذي بيناه، فلابد إذاً من التقابض.
وهذه الحالة بالنسبة لمسألة الافتراق، وهي أن يعطي بيد ويقبض بالأخرى.
الوجه الثاني: أن يعطيك في مجلس العقد، ولم يؤخر -أي: لم يؤخر إلى ما بعد المجلس- فأنتما في الدكان أو في الغرفة، وقلت له: يا فلان! معي خمسمائة ريال اصرفها لي، فأخرج المئات وجلس يعدها، أو أخرج مثلاً صندوقه أو كيسه أو نحو ذلك فتأخر، وأنت قد أعطيته الخمسمائة، فربما قبضها، وربما وضعها في حجره، وربما وضعها في جيبه، ثم جلس يعد، أو يبحث عن نقده الذي معه، أو يفك خزنته أو صندوقه، ثم أخرج لك الخمسمائة، فلم يحصل التقابض لكنهما لم يفترقا، فمن العلماء من قال: يجب أن يعطي بيد ويأخذ بأخرى، وهذا مذهب من شدد، وهناك من خفف وهو الصحيح، فقالوا: ما داما في مجلس العقد فالأمر يسير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله ابن عمر أن يبيع بالدنانير ويقتضي بالدراهم، ويبيع بالدراهم ويقتضي بالدنانير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم، إذا كان بسعر يومه، ولا يحل لك أن تفارقه وبينكما شيء)، فجعل التحريم المنبني على عدم التقابض مركباً على الافتراق، فدل على أنهما إذا افترقا وليس بينهما شيء فلا بأس به.
ومن هنا قال الجمهور: العبرة بمجلس العقد، فإذا أخذ منك الخمسمائة ثم تأخر قليلاً، ولكنه أعطاك الصرف قبل أن تفارقه وقبل أن تقوم من مجلس العقد، فالأمر يسير والحمد لله، وهذا هو الصحيح.