[حكم الوصية للملائكة أو للبهائم أو للميت]
قال رحمه الله: [ولا تصح لملك وبهيمة وميت].
فلا تصح الوصية لمَلَك، كأن يقول مثلاً: هذه الألف لجبريل، فلا تصح الوصية، وهذا من الأمور المبتدعة التي يفعلها أهل الجهل، مثلما يقول بعضهم: وهبت ثواب قراءتي وصلاتي إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا يقال له: أنت وصلاتك وعبادتك كلها في ميزان حسنات النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى جعل له أجر الأمة كلها، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (من دعا إلى هدى كان له أجره)، فذلك تحصيل حاصل.
وقد قرر الأئمة رحمهم الله أن هذا من الأمور المستحدثة على المسلمين، فالثواب حاصل، ومقام النبي صلى الله عليه وسلم أعلى وأرفع من أن تتصدق عليه بحسنة ذكر أو طاعة، فمقامه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه أجل وأكرم عليه الصلاة والسلام.
فالمقصود من هذا: أنه لا يوصَى لملك، ولا لبهيمة، فمثلها لا يملك؛ لأنه يتعذّر هذا الإيصال، وهكذا إذا كانت لمُبهم، كقوله: أوصي لرجل؛ قال طائفة من العلماء: لا تصح؛ لأنه لا يمكن الإيصال، فمن هو هذا الرجل؟ لا يمكن تعيينه، ففي هذه الحالة يتعذّر الإيصال إلى الملك، والمبهم يتعذر التعيين ما لم يعين هو، والأصل يقتضي أن تكون الوصية واضحة، وأن تكون بيّنة معلومة.
وقوله: (وبهيمة)، كقوله: أوصي لبهيمة، مثلما يقع عند أهل الكفر والعياذ بالله، فيترك ورثته عالة يتكففون الناس، ويوصي بملايينه لكلبه، نسأل الله السلامة والعافية! وصدق الله جل جلاله حيث يقول: {إِن هُمْ إِلَّا كَالأَنعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:٤٤]، فبمجرد ما يخرج الإنسان عن الدين ويترك شرع ربه؛ فإنه ينزل إلى مستوى أحط من البهيمة: {إِن هُمْ إِلَّا كَالأَنعَامِ} [الفرقان:٤٤]، وليس هذا فقط: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:٤٤]، فهم أضل سبيلاً وأضل فكراً، وهل من عنده عقل يوصي لبهيمة؟! فالكلب عندهم -أكرمكم الله- أحب وأكرم من صلة القرابة؛ لأنها مجتمعات مدمرة منحطة، ولو مُدحت وأُثني عليها ووضعت في السماء، لكن هذا كله خلاف الحقيقة، ولذلك من أراد الحقيقة والجوهر فلينظر إلى عظمة هذا الدين، وعظمة هذا الإسلام الذي بُعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فهو العز والكرامة.
فالوصية للكلاب وللبهائم لا يفعلها إلا إنسان ليس عنده عقل، ولو وصّى لبهيمة لم تصح، والوصية للكلاب ولدور الكلاب ولدور الحيوانات لا تصح.
لكن في بعض الأحيان يقول بعض العلماء: إذا جعل قدراً من بستان أو من طعام عنده صدقة على بهائم المسلمين، أو علفاً لدواب المسلمين، أو علفاً لدواب الجهاد في سبيل الله ونحو ذلك، فهذا اغتفره العلماء رحمهم الله، وله وجهه.
لكن أن نقول: هذه العشرة آلاف أعطوها الكلب الفلاني، أو ضعوها في رصيده -والعياذ بالله- في البنك، فهذا لا يصح في شريعة الله عز وجل، والشريعة قد أعطت كل ذي حق حقه.
ولذلك يُصرف المال في وجهه، لكن عند العلماء إشكال فيما إذا وصى مثل هذه الوصايا، فهل تبطل الوصية من أصلها، أم أنه ينظر إلى جهة يمكن أن تصحَّح بها الوصية، فتصرف لضعفة المسلمين ولفقرائهم؟ نقول: هذا فيه تفصيل عند أهل العلم رحمهم الله باختلاف أنواع الوصايا، ومن أمثلتها: الوصية إلى ما لا نفع فيه، أو الوصية إلى ما فيه ضرر، فلا تجوز الوصية إلى دور فيها محرمات، فهل تبطُل الوصية من أصلها أو تصرف، فبدلاً من أن تذهب إلى دور المحرمات تذهب إلى دور المساجد وإلى دور العلم؟ اختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه إِذا وُصِّي بها -مثلاً- إلى طوائف ضالة، أو إلى ملل أو نِحل، كأن: وصَّى بماله -والعياذ بالله- في المساهمة في بناء الكنائس، أو طبع التوراة أو الإنجيل، فلا تصح؛ لأنها وصية بضلال، فيقولون: إنه قد يكون جاهلاً ويظُن أن الطاعة في مثل هذا، فننظر إلى الطاعة الحقيقية فنصحح وصيته؛ لأن القاعدة: أن الإعمال أولى من الإهمال.
ومن أهل العلم من قال: تبطل الوصية من أصلها ولا تصحّح، فعند العلماء هذا التفصيل في هذه المسألة.
وهكذا لو وصَّى لميت فلا يصح؛ لأن الوصية يشترط فيها القبول، والميت يتعذر منه القبول.