[صلاة الليل وأفضل وقتها]
يقول المصنف عليه رحمة الله: [وصلاة الليل أفضل من صلاة النهار].
فبعد أن ذكر رحمه الله النوافل التي يسن للمكلف فعلها، وبيّن أنواع هذه النوافل من حيث ما تسن له الجماعة وما يوقعه المكلف حال انفراده شرع رحمه الله في بيان فضل صلاة الليل، فإن أفضل النوافل وأحبها إلى الله عز وجل وأعظمها أجراً صلاة الليل، وهذا بالنسبة للمقابلة بين صلاة الليل والنهار، والأصل في تفضيل صلاة الليل على صلاة النهار ما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل)، وقد امتدح الله عز وجل أهل الليل الذين يتهجدون، خاصةً إذا كان تهجدهم في دياجير الظلمات، أعني الثلث الأخير من الليل، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه انتهى وتره إلى السحر)، فكان قيامه أكمل القيام، وإحياؤه الليل أكمل الإحياء.
وقد جاءت الآيات في كتاب الله عز وجل والأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم تبيّن فضل قيام الليل، وأنه لا يحافظ عليه إلا مؤمن يخاف الله ويرجو رحمته، قال الله عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ} [الزمر:٩]، قال العلماء: في هذه الآية دليل على أنه لا يحافظ على قيام الليل إلا من خاف الله عز وجل ورجا رحمة الله سبحانه وتعالى، وأكد الله هذا المعنى بقوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:١٦].
وفي قيام الليل الفضائل والنوائل، ولذلك قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:٧٩]، أي: مقاماً يحمدك عليه الأولون والآخرون.
وهذا إنما ذكره الله بعد أمره لنبيه صلى الله عليه وسلم بقيام الليل.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن قيام الليل دأب الصالحين وشأن عباد الله الأخيار المتقين، كما في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين من قبلكم)، فدلت هذه النصوص من كتاب الله عز وجل وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم على فضيلة قيام الليل، ونظراً لكون قيام الليل فيه المشقة وفيه العناء وفيه الجهد أثنى الله عز وجل عليه، وأخبر أنه أجلّ وأكرم، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:٦]، وناشئة الليل إنما تكون بعد الليل وبعد الضجعة، فأفضل قيام الليل ما كان في آخر الليل، وكان بعد نوم وهجود، فحينئذ يصدق على الإنسان أنه متهجد، والسبب في هذا أنه إذا اضطجع ونام وذاق لذة النوم والكرى فإنه لا ينبعث من فراشه إلا بقوة إيمان وخشية لله عز وجل ورجاء في رحمته، وفي الحديث الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد إذا قام من الليل يتهجد من بين زوجه وحِبّه قال الله: يا ملائكتي! عبدي ما الذي أقامه من حِبّه وزوجه؟ قالوا: إلهنا: يرجو رحمتك ويخشى عذابك.
فيقول الله: أشهدكم أني قد أمنته من عذابي وأصبته برحمتي)، فقيام الليل فيه فضلٌ عظيم.
وإنما قال العلماء بتفضيله لورود النصوص في الكتاب والسنة بالثناء على أهله وبيان عظيم فضله، ولذلك قال العلماء رحمهم الله: أفضله وأكمله أن يكون في آخر الليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الدعاء أسمع في آخر الليل، وأن أفضل ما يكون من الصلاة في جوف الليل الآخر، فقال عليه الصلاة والسلام يخاطب الصحابي: (إن أحببت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن)، أي: إن أحببت واستطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن.
أعني: الثلث الأخير من الليل.
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الليل ساعة لا يوافقها عبدٌ يسأل الله خيراً من الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه)، فهذا فضلٌ عظيم، وقد قرر العلماء رحمهم الله أن أفضل قيام الليل الثلث الآخر، ولكنهم استحبوا أن يكون السحر للاستغفار، والسحر يوافق سدس الليل الأخير، فيجعل ما قبل السدس للتهجد والعبادة وتلاوة القرآن تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان عليه الصلاة والسلام يقوم ثلث الليل الآخر، فكان يصلي ما شاء الله له أن يصلي، ثم إذا فرغ جعل بينه وبين صلاته وأذان الفجر وقتاً كما ثبت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، ولذلك قال العلماء: الأفضل في آخر الليل -أعني السدس الأخير من الليل- أن يتفرغ للاستغفار، حتى قال بعض العلماء: هو أفضل من تلاوة القرآن؛ لأن الله يقول: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:١٨]، فأثنى على من استغفره سبحانه في هذا الوقت -أعني السحر-، وقد ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن الله تعالى ينزل في كل ليلة في الثلث الآخر من الليل)، كما ثبت في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام، ولذلك استحب العلماء أن لا يصل قيام الليل إلى السحر، وإنما يكون وتره عند ابتداء السحر، وهذا أفضل الهدي وأكمله؛ لما فيه من الراحة للنفس قبل الفجر، فإنه إذا جلس للاستغفار هدأت أعضاؤه وسكنت من عناء قيام الليل؛ لأن الإنسان بشر، وربما أنه لو واصل قيام الليل إلى الفجر ضعف عن الصلاة المفروضة ولم يخشع فيها، فكان مشتغلاً بفضل نافلة عن فضيلة فريضة، والفريضة أفضل من النافلة.
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن قيام الليل أفضل من صلاة النهار تطوعاً.
قال رحمه الله: [وأفضلها ثلث الليل بعد نصفه].
أي: أفضل قيام الليل ثلث الليل بعد نصفه، أي: الثلث الآخر كما يعبر عنه العلماء رحمة الله عليهم.
قال العلماء: فضلت صلاة الليل على صلاة النهار من وجوه: أولها: ثناء الله على أهل هذه الصلاة في كتابه العزيز، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث.
ثانياً: لأنها صلاة خفية لا يعلمها إلا الله عز وجل، وذلك أن ساعة الليل ساعة تهدأ فيها العيون، وتسكن فيها الجفون، ولا يرقب فيها أحد أحداً، حتى إن الرجل ربما قام يصلي وأهله الذين هم أقرب الناس منه لا يشعرون بقيامه، ولذلك قالوا: لمكان الإخلاص وكون هذه العبادة خفية لا يعلمها أحد كانت أفضل من غيرها، بخلاف صلاة النهار، فإن الغالب فيها أن يطلع عليها الناس، وأن يعلم بها الناس.
ثالثاً: لأن الناس في الليل يحتاجون إلى النوم ويحتاجون إلى الراحة، فإن قام أول الليل فإنه يقوم بعد عناء وتعب ونصب وهو أحوج ما يكون إلى النوم، فكونه يؤثر الصلاة على النوم فذلك أبلغ ما يكون في العبادة والطاعة، وإن صلاها بعد نومه كان أبلغ وأبلغ؛ لأنه إذا ذاق لذة النوم والكرى وحلاوة الفراش ثم قام من ذلك كله فهو مؤثر مرضاة الله عز وجل.
فلأجل هذه الفضائل كلها فضلت صلاة الليل على صلاة النهار.