(غير) استثناء (الخمرة) والخمر أصله: التغطية، ومنه الخمار؛ لأنه يغطي الوجه، وسميت الخمر خمراً؛ لأنها -والعياذ بالله- تغطي عقل الإنسان وتذهب إدراكه وشعوره، والخمرة تكون مائعة في الأصل، ولكن يلتحق بها كل ما كان مؤثراً في العقل ولو كان جامداً، سواء كان مصنعاً كما هو الموجود الآن في بعض حبوب المخدرات، أو كان طبيعياً كبعض النباتات كالشيكران، فإنه إذا أكل أثر في العقل، أو الخشخاش الذي هو أصل الأفيون، فكل ذلك يعتبر في حكم الخمر، لكن العلماء إذا أطلقوا الخمر فمرادهم به: الشراب المائع الذي يكون من العنب أو من التمر أو من الزبيب أو من غيرها من سائر الثمار، فهذه الخمرة محكوم بنجاستها، وقد تكلمنا على هذه المسألة غير مرة، وفصلنا القول فيها في شرح بلوغ المرام، فإن الذين قالوا بنجاستها -وهم جماهير العلماء- حكموا بالنجاسة لظاهر القرآن في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ}[المائدة:٩٠] والرجس: هو القذر في أصل اللغة، والقذر في الشرع أصله النجس، وقالوا: خرجت الأزلام، أما الأنصاب فإنها نجسة؛ لأنها كانت حجارة يذبح عليها، فيكون الدم المسفوح النجس قد أصابها فهي بذلك نجسة بلا إشكال.
أما الأزلام فقال العلماء: خرجت بدلالة الحس وبقي ما عداها على الأصل، وأما بالنسبة للخمر فليس هناك دلالة حس على طهارتها، فإنها مستقذرة، فتبقى على وصف الرجس في الشرع من كونها نجسة، وهذا الدليل نوزع بإراقة النبي صلى الله عليه وسلم لوعاء الخمر كما في قصة المزادتين، فإنه أمر الصحابي أن يريق الخمر من المزادتين، قالوا: ولم يأمره بغسلهما، وهذا استدلال فيه نظر كما نبه عليه غير واحد من أهل العلم، فإن سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن أمره بغسل مزادة الخمر إنما هو للعلم به بداهة، فإنك إذا وضعت في هذه المزادة لبناً وأرقت اللبن فمعلوم بداهة أنك ستغسلها، فسكت عليه الصلاة والسلام لعلم الصحابي بذلك بداهة.
وقال بعض العلماء في جوابه: لو قيل: إن ظاهر سكوت النبي صلى الله عليه وسلم يدل على طهارتها لاحتج بذلك محتج وقال: يجوز لمن أخذ مزادة الخمر بعد تفريغها أن يصب فيها لبناً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بغسلها، فيكون الجواب بأنه سكت عن الأمر بغسلها للعلم به بداهة، وكما أننا في المشروبات نقول: سكت عنه للعلم به بداهة، كذلك في العبادات نقول: سكت عنه للعلم به بداهة، فهي نجسة، وأما صبها في سكك المدينة فقد بين العلماء أن هذا لا يدل على طهارتها؛ وذلك لأن الصحابة إذا صبوها في سكك المدينة ومشوا عليها بالنعال، فإن المشي على الأرض اليابسة يطهر النعال كما ذكرنا، ولو أن امرأة جرّت ثوبها على خمرة مراقة ثم مضت بعد ذلك إلى أرض يبسة؛ فإنها تطهره بذلك الجر، وبناءً على ذلك: لا يعتبر هذا دليلاً قوياً كما نبه عليه الشيخ الأمين رحمة الله عليه، وله فيه بحث نفيس في تفسير آية المائدة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ}[المائدة:٩٠] فأقوى الأقوال وأعدلها القول بنجاستها.
وقال بعض العلماء مستدلاً على طهارة الخمر: إن الله تعالى يقول: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}[الإنسان:٢١] فوصف الخمر بكونها طهور؛ وقد فاته أن الله حكم بأن خمر الآخرة لا غول فيها، والغَول: هو أساس نجاسة الخمر في الدنيا، فنجاسة الخمر في الدنيا مبنية على وجود هذه المادة التي تستحيل عند الخل، ولذلك لما استحالت هذه المادة في الخمر حكمنا بطهارتها، ولما كانت خمر الآخرة طاهرة من جهة عدم وجود الغول فيها قال تعالى:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}[الإنسان:٢١] وقلب بعض العلماء هذا الاستدلال فقال: بل هو دليل على نجاستها؛ لأنه لو كانت خمر الدنيا والآخرة مستويان لما قال:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}[الإنسان:٢١].