[الحكمة في اشتراط نكاح الزوجة بزوج آخر حتى تحل لزوجها الأول]
ومن حكم الله سبحانه وتعالى في المطلق ثلاثاً أنه لا تحل له زوجته حتى تنكح زوجاً غيره، وبيّن هذا الحكم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء كتاب الله عز وجل باشتراط النكاح الثاني، وجاءت السنة باشتراط الوطء وحصول ما يشترط من الإيلاج المعتبر للحكم بحل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول.
ونظراً إلى أن هذه المسألة مترتبة على الطلاق ذكرها المصنف رحمه الله في ختام كتاب الطلاق، فذكر أن المطلق إذا استتم العدد وذلك في قوله: [إذا استوفى ما يملك] أي: إذا استتم العدد الذي جعله الله له.
فكأن الزوج يملك الطلاق؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل له الطلاق، فإذا استتم العدد المعتبر فإنه لا تحل له الزوجة إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره لقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:٢٣٠] أي: الطلقة الثالثة {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:٢٣٠].
وذلك بعد قوله سبحانه: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:٢٢٩] فبيّنت هذه الآية الكريمة من سورة البقرة أن من طلق الطلقة الثالثة أنه لا تحل له هذه الزوجة حتى تنكح زوجاً غيره، ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه جعل المطلقة ثلاثاً لا تحل لزوجها الذي طلقها ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره؛ لأن كلا الزوجين أعطي المهلة.
فالطلقة الأولى والثانية كان بإمكان كل منهما أن يصحح خطأه، فلو حصل أن الزوج تسرع في الطلقة الأولى فإن تسرعه يستطيع أن يتلافاه بما بقي له من الطلقتين.
فإن كان الخطأ صادراً منه لأنه ربما يكون أول سبب للطلاق هو الزوج، ولربما كان السبب الزوجة، فإذا وقع من الزوج الطلقة الأولى بسبب خطأ أو تقصير منه؛ فإنه بوقوع الطلقة سيندم ويتأثر ويرجع إلى زوجته.
فلو أنه استقام ربما أخطأت الزوجة، فجعل الشرع له أن يعطيها مهلة كما أعطى لنفسه المهلة، فجاءت الطلقة الثانية على فرضية أن يكون الخطأ من الزوجة، فبقيت الطلقة الثالثة فيصلاً بينهما، حتى ولو حصل أنه تكرر خطأ من الزوج مرتين فطلق الطلقة الأولى بقيت الثالثة، فيحترز كل منهما؛ لأنه إذا أخطأ الزوج المرة الأولى، وأخطأ المرة الثانية حرصت المرأة على أسلوب أشد من حالها في الطلقة الثانية على أن تعامل زوجها وتحافظ عليه إذا كانت تريد هذا البيت.
فإذا طلقها فلا يخلو إما أن يكون الطلاق -في الثلاث تطليقات- بسبب الزوج أو يكون بسبب الزوجة، أو يكون مشتركاً بينهما.
فإن كان بسبب الزوج فإنه يكتوي بنار الغيرة حينما يحس أن زوجاً آخر قد استمتع بهذه الزوجة، وعندها يتألم ألماً شديداً، بحيث لو فكر أن يتزوج امرأة ثانية فإنه يخاف من الطلاق ويهاب.
كذلك أيضاً جعل الشرط تحقيقاً لهذا المقصود، أنها لا تحل له حتى يطأها الزوج الثاني، وهذا أبلغ ما يكون تأثيراً وزجراً ومبالغة في دفع الأذية من الأزواج.
فإذا ما نكحت الزوج الثاني -والشرع اشترط أن يدخل بها الزوج الثاني- تأثر الزوج الأول واكتوى بنار الغيرة، هذا إذا حرص وعرف قيمة زوجته الأولى.
ثم الفرض الثاني: أن يكون الخطأ من الزوجة فإذا كانت الزوجة هي التي تستفز زوجها، وهي التي ألجأته إلى الطلقة الأولى أو الثانية، أو ألجأته إلى أغلب الطلاق، أو إلى الطلقة الأخيرة التي بسببها حصل الفراق، فإن الزوج لا يحل لها أن يراجعها حتى تنكح زوجاً غيره.
وحينئذٍ فالغالب أنه لا يصبر وسيتزوج امرأة ثانية، أو يفكر في زواج الثانية، فتكتوي هي أيضاً بنار الغيرة، ولكنها لابد لحلها للزوج الأول من أن تتزوج الزوج الثاني، فإذا نكحت الثاني إما أن يكون الثاني أفضل من الأول فتحرص على عشرته على أحسن ما تكون الزوجة لزوجها.
وإما أن يكون أسوأ من الأول، فتحرص على أن ترجع للأول، والشرع من كماله ووفائه راعى المعاني النفسية ولم يهدرها، ولذلك جاءت امرأة رفاعة حينما طلقها فبت طلاقها ونكحها عبد الرحمن بن الزبير؛ جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له: إن ما معه مثل هدبة الثوب، قال عليه الصلاة والسلام: (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا.
حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته).
فاكتوت بنار الحرص على أن ترجع إلى زوجها الأول قبل أن ينكح غيرها؛ لأنها عرفت قيمة زوجها الأول.
وهذا لا شك أنه من أكمل ما يكون، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:٥٠] وقوم يعقلون وقوم يتقون وقوم يؤمنون؟ فالله يحكم ولا معقب لحكمه.
فمن حكمته سبحانه وتعالى أن شرع هذا الأمر، وهو أن تحل الزوجة المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول بشرط أن ينكحها زوج آخر.
ولهذا النكاح شروط شرعية وأحكام ومسائل وتفصيلات يعتني العلماء رحمهم الله بذكرها، وهذا ما سيبينه رحمه الله في هذا الفصل.
جاء القرآن باشتراط الزوج الثاني، وهذا الشرط محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، وبناءً على ذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن المطلقة ثلاثاً لا تحل لمن طلقها ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره، على التفصيل الذي سنذكره إن شاء الله.
[إذا استوفى ما يملك من الطلاق] حراً كان أو عبداً على التفصيل المذكور عند العلماء، وقد تقدم بيان هذه المسألة وكلام العلماء رحمهم الله.
[إذا استوفى ما يملك من الطلاق حرمت] حكم بحرمة المرأة المطلقة، وهذا النوع من التحريم يوصف عند العلماء بالتحريم المؤقت؛ لأن تحريم المرأة ينقسم إلى قسمين: إما أن تحرم حرمة مؤبدة.
وإما أن تحرم حرمة مؤقتة.
فالحرمة المؤقتة من أمثلتها المطلقة ثلاثاً فإنها تحرم على الزوج الاول حتى تنكح زوجاً غيره، فأقتت باشتراط أن ينكحها زوج آخر، ومن التحريم المؤقت أن يكون عنده أربع نسوة، فلا تحل له الخامسة حتى يطلق واحدة من الأربع وتخرج من عدتها، ويسمى مانع العدد.
ومن أمثلة الموانع المؤقتة مانع الرق ومانع الكفر مثل المجوسية قال صلى الله عليه وسلم: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم).
فالمرأة إذا كانت مجوسية والعياذ بالله فلا يحل للمسلم أن ينكحها، وهكذا إذا كانت وثنية أو مشركة أو ملحدة أو لا دين لها والعياذ بالله، هذه لا يحل نكاحها.
فيعتبر وجود هذا الكفر مانعاً؛ لكنه مانع مؤقت بحيث لو أسلمت أو صارت كتابية حل نكاحها على التفصيل الذي تقدم معنا.
الحرمة المؤبدة: مثل النكاح المحرم من جهة النسب أو الرضاع أو المصاهرة، وقد تقدم بيان هذه الموانع وتفصيلها.
قوله: [حرمت] أي: لقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:٢٣٠] فقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ} [البقرة:٢٣٠] عند علماء الأصول أن من صيغ التحريم الصريح القوية نفي الحل عن الشيء، مثل قوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب:٥٢]، {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ} [البقرة:٢٢٩].
هذه كلها تدل على تحريم الشيء، فقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:٢٣٠] نص في تحريم المطلقة على من طلقها ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره.